لن نستطيع أن نفهم الحكم الذي صدر بحبس الكاتب أحمد ناجي عامين بتهمة خدش الحياء والنيل من قيم المجتمع في رواية نشر فصلا منها في مجلة «أخبار الأدب» إلا في السياق الذي صدر فيه الحكم بحبس الكاتبة فاطمة ناعوت ثلاثة أعوام بتهمة ازدراء الدين الاسلامى، وهو ذاته السياق الذي صدر فيه الحكم بحبس المفكر إسلام بحيري بهذه التهمة ذاتها. هذه الأحكام لاتعبر فقط عن موقف سلبي من حرية التفكير والتعبير، ولاتستند فقط لقوانين متخلفة تنتمي لعصور مضت، وإنما تعبر عن تيارات معادية لثقافة النهضة ولكل ما حققته في القرنين الماضيين، وتستند للقوي الرجعية، عامة ولجماعات الاسلام السياسي خاصة ومن يساندونها في السر والعلن داخل السلطة وخارجها. وفي هذا الاطار نفهم هذه الأحكام التي صدرت ضد المثقفين المصريين وسوف يتوالي صدورها لأن وراءها هذه التيارات وهذه القوي التي لاتزال قادرة بعد الثورتين علي التنكيل بالجماعات التي حرضت المصريين ودفعتهم للثورة والمثقفون المصريون في مقدمة هذه الجماعات. إذن لابد من التنكيل بالمثقفين المصريين. لابد من تكفيرهم وتحريض الدولة والشعب عليهم واتهامهم بإزدراء الإسلام وهدم التراث وخدش الحياء والسخرية من الشعائر الدينية.. إلي آخر هذه التهم وما صدر فيها من أحكام لن نفهمها كما قلت إلا في السياق الذي تلا هزيمة يونيو وسقوط المشروع الناصري وما أحدثته الهزيمة وسقوط المشروع في نفوس المصريين من شعور مزلزل بضياع كل شيء، ومن احتياج عنيف لملاذ لم يجدوه إلا في النشاط الديني الذي كان هو وحده النشاط المسموح به في نظام يوليو، خاصة بعد أن تربع السادات علي قمة هذا النظام وعاد به إلي أصله فتحالف مع الاخوان الذين خاصمهم عبدالناصر، ونكل بهم حتي جاء الرئيس المؤمن فأخرجهم من السجون المصرية وسمح للمنفيين منهم في بلاد النفط بالعودة مزودين بكل ما يمكنهم من الانتشار وبسط النفوذ، والتغلغل في أوساط الفقراء والريفيين والأميين، فهم يبنون المساجد والزوايا، وينشئون المدارس والمستشفيات والمتاجر والشركات، ويفرزون جماعات جديدة تتحدث بلغتهم وتستخدم العنف نيابة عنهم وتسمح لهم بأن يتفرغوا للسيطرة علي الجامعات وكليات التربية ووزارات التربية والتعليم والأوقاف والصحة والنقابات المهنية ويفرضوا وجودهم علي السلطة في مجالسها النيابية التي لم تستطع أن تمنعهم من دخولها، رغم كل ما لجأت إليه من صور التزييف والتزوير في الانتخابات الشكلية التي أجرتها. وليس في مصر من استطاع أن يقف في وجه هذه الجماعات وحلفائها إلا المثقفون الذين كان عليهم بالتالي أن يدفعوا الثمن الذي ظلوا يدفعونه منذ يوليو 1952 إلي الآن. لقد انهار النظام الليبرالي الذي قام بعد ثورة 1919 بكل مؤسساته السياسية والاقتصادية الرسمية والمدنية. الدستور، والأحزاب السياسية، والنشاط النقابي، والصحافة الحرة، ولم يبق من إنجازات النهضة إلا الثقافة والمثقفون المصريون الذين ظلوا يدافعون عن قيم الاستنارة والديمقراطية والمواطنة وحرية التفكير والتعبير، وظلوا بالتالي يصطدمون بالسلطة الحاكمة وبأجهزتها ومؤسساتها التقليدية المناوئة بطبيعتها للحريات الديمقراطية، وهي أجهزة الأمن من ناحية، والمؤسسات الدينية من ناحية أخري. هكذا فصل أساتذة الجامعة المعارضون من وظائفهم، وزج بالكتاب والفنانين والصحفيين الليبراليين واليساريين في السجون والمعتقلات، وتعرض النشاط الأدبي والفني للمراقبة والمصادرة علي يد الأجهزة الحكومية، وعلي يد المؤسسات والجماعات الدينية من خمسينيات القرن الماضى إلى اليوم ونحن ننظر إلى هذه السنوات الستين العجاف فنجدها حافلة بصور القمع والتعذيب والمنح والمنع والترغيب والترهيب، التى تعرض لها المثقفون المصريون بكل أجيالهم وإنتماءاتهم على يد هذه الجهات. اليمين واليسار، والرجال والنساء، والشباب والشيوخ. حتى توفيق الحكيم وطه حسين. توفيق الحكيم فصل من عمله فى دار الكتب لأنه فى نظر إسماعيل قبانى وزير المعارف غير منتج وطه حسين فصل من رئاسة تحرير جريدة الجمهورية لسبب قريب من هذا السبب. والباقى معروف ومشهور. ما حل بالمئات من الصحفيين والمثقفين فى أيام السادات، وبعده فى أيام مبارك التى شهدت اغتيال فرج فودة، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، حتى نصل الى ما حل بنا جميعا فى زمن الاخوان، وما حل بإسلام بحيرى، وفاطمة ناعوت، وأحمد ناجى فى هذه الأيام؟ المثقفون المصريون هم ممثلو النهضة وحراسها والمبشرون بقيمها، والمدافعون عنها فى الزمن الذى عادت فيه الدولة المصرية إلى أوضاع شبيهة بالأوضاع التى كانت عليها فى زمن الاتراك والمماليك. عودة لم تكن مجازية، ولم تتمثل فقط فى بعض السياسات أو بعض الشعارات، وإنما كانت عودة فعلية إلى عصور الانحطاط، تمثلت فى وصول الاخوان والسلفيين للسلطة، فلم يتصد لهم خلال السنة التى حكموا فيها مصر إلا المثقفون الذين كشفوا للمصريين عن حقيقة هذه الجماعات التى تحكم بلادهم وهيأوهم للنهوض بثورة يونيو التى ساندها الجيش ومكنها من الاطاحة بالاخوان وبدولتهم الدينية. غير أن الاخوان الذين أسقطتهم ثورة يونيو هم حكومة الاخوان، أما ثقافة الاخوان، كلامهم عن تطبيق الحدود، وإحياء الخلافة، والتمييز بين المسلمين وغيرهم، وبين الرجال والنساء.. هذه الثقافة الصحراوية المتخلفة لاتزال حتى الآن سائدة تهدد أمننا وتستنزف طاقاتنا وتجد من يتبناها ويرفع شعاراتها ويفرضها حتى على الدستور الذى أسفرت عنه ثورة يونيو التى أسقطت حكومة الاخوان ولم نستطع أن ننص فيه على أن مصر دولة مدنية، لأن ممثلى الأزهر والسلفيين فى اللجنة التى وضعته رأوا أن الدولة المدنية هى الدولة الديموقراطية التى تفصل بين السياسة والدين. وهم لا يريدون هذا الفصل الذى يوقفهم عند حدهم ويمنعهم من أن يكونوا سلطة أو مرجعا، ولهذا عارضوا النص على أن تكون الدولة مدنية وأصروا عل أن تكون الشريعة هى المصدر الرئيسى للتشريع. ومادامت الشريعة هى مصدر التشريع فالاخوان الذين طردناهم بالثورة عادوا بالدستور الذى وضعته الثورة. ومادامت الشريعة هى المصدر فكل ما يتعارض معها باطل. المادة التى تمنع فى الدستور قيام الأحزاب الدينية باطلة ولهذا لم تمنع السلفيين من تشكيل أحزابهم. والمادة التى تنص على أن حرية الابداع الفنى والأدبى مكفولة باطلة، لأنها تتعارض مع موقف المؤسسات والجماعات الدينية من الحرية ومن حقوق الإنسان. وفى هذا الإطار الذى تتعارض فيه مواد الدستور وتتناقض وينفى بعضها بعضا تفرض الجماعات والمؤسسات الدينية سلطتها وتصبح الديمقراطية حبرا على ورق ويدفع المثقفون الثمن. إسلام بحيرى يصدق الدعوة لتجديد الخطاب الدينى فيحكم عليه بالسجن سنتين. وفاطمة ناعوت تواصل ماعبرت عنه المرأة المصرية فى ثورة يناير وثورة يونيو من شجاعة وحضور فتعاقب بالسجن ثلاث سنوات. وأحمد ناجى يصدق المادة التى تنص فى الدستور على كفالة الدولة لحرية الابداع فيلقى ما لقيته فاطمة ناعوت وإسلام بحيرى. نحن لسنا أمام وقائع فردية. أنها حرب معلنةعلى الثقافة المصرية والمثقفين المصريين. امتداد لما حدث فى العقود الماضية ولما يحدث حتى الآن فى سيناء!. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي