أشرنا فى الأسبوع الماضى إلى العديد من الملفات المغلقة فى الاقتصاد المصرى والتى غالبا ما لايتم الحديث عنها عند التعرض لقضايا الإصلاح المالى ومن أهمها الهيئات الاقتصادية والتى تعتبر صيغة من الصيغ القانونية لكيانات اقتصادية كان يتعين أن تستقل بالكامل عن الموازنة العامة للدولة وتعمل وفقا لأسس اقتصادية وفى إطار القانون رقم 11 لسنة 1979 والذى تم بمقتضاه فصل موازنة هذه الهيئات عن الموزانة العامة للدولة بحيث تقتصر العلاقة فيما بينهما على الفائض الذى يئول للخزانة العامة من بعض هذه الهيئات أو توفير ما يتقرر إليها من دعم وقروض والتزامات. وبالتالى تعتبر هذه الهيئات وحدات مستقلة ذات شخصية اعتبارية ولها استقلالها المادى والإدارى باعتبارها ذات طابع اقتصادى وفقا للقوانين المنظمة لها. وكان المفترض أن تحقق هذه الهيئات التوازن الاقتصادى والمالى بحيث تغطى نفقاتها من مواردها الذاتية وبالتالى تخفف العبء عن الموازنة العامة للدولة وهو مالم يتحقق على الإطلاق إذ ظلت هذه الهيئات تحقق خسائر متراكمة عبر السنوات، وهنا تشير البيانات الى ان رأس المال المستثمر فى هذه الهيئات يصل الى اكثر من 388 مليار جنيه بينما تشير الحسابات الختامية إلى أنها حققت خسائر فى النشاط وصلت الى نحو 16 مليارا جنيه عام 2014/2015 مقابل 11 مليارا عام 2013/2014 مع ملاحظة أن أربع هيئات فقط تسهم بنحو 90% من هذه الخسائر يأتى على رأسها هيئة السكك الحديدية بخسارة 5٫2 مليار ثم اتحاد الإذاعة والتليفزيون بنحو 4٫5 مليار وهيئة السلع التموينية 2٫2 مليار جنيه. بل والاخطر من ذلك تراجع صافى حقوق الملكية فى هذه الهيئات بصفة مستمرة وذلك بعد أن بلغت الخسائر المرحلة نحو 83.6 مليار جنيه. وعلى الجانب الآخر فإن إجمالى فائض الحكومة المحقق من بعض الهيئات قد تراجع من 44.6 مليار جنيه عام 2013/2014 إلى نحو 42.9 مليار عام 2014/2015 وهذا الفائض يأتى فى معظمه من أربع هيئات على رأسها قناة السويس بنحو 19.5 مليار ثم هيئة البترول بنحو 17.8 مليار والمجتمعات العمرانية بنحو 2.7 مليار والجهاز القومى لتنظيم الاتصالات بنحو 949 مليون جنيه. كما تشير موازنة التحويلات الرأسمالية إلى حصول بعض الهيئات على مساهمات من الخزانة العامة بنحو 3.7 مليار جنيه مقابل 6.5 مليار خلال عام 2013/2014 وذلك لتمويل سداد القروض المحلية والخارجية المستحقة عليها وعجز العمليات الجارية المرحل ببعضها. وقد ترتب على ذلك ان الموازنة العامة للدولة باتت تتحمل سنويا أعباء مالية كبيرة حيث تحصل هذه الهيئات على قروض ومساهمات من الخزانة العامة لسداد التزاماتها فضلا عن الأموال المخصصة لدعم العديد منها. فى الوقت الذى لا يئول للخزانة العامة منها سوى عائد ضئيل للغاية لا يتناسب بحال من الأحوال مع حقوق الملكية أو رأس المال المستثمر فيها, باستثناء هيئتى قناة السويس والبترول. أوهنا تشير الإحصاءات إلى تزايد العجز فى صافى العلاقة بين الموازنة والهيئات مع استمرار التناقض فيما يئول للخزانة العامة من هذه الهيئات مع زيادة ما تقدمه الخزانة من أموال. فارتفع من 65.6 مليار عام 2011/2012 الى 90 مليارا عام 2013/2014. وقد ادت هذه العوامل إلى تقلص مصادر التمويل الذاتى للعديد من الهيئات الاقتصادية واعتمادها بشكل كبير على القروض فى تمويل استخداماتها الرأسمالية وتزايد الأعباء الملقاة عليها عاما بعد آخر إذ أصبحت ترزح تحت عبء الفوائد على القروض. وجدير بالذكر انه فى إطار محاولة الإصلاح صدر قرار حكومى بالموافقة على تعلية القروض التى حصلت عليها الهيئات الاقتصادية الى رءوس أموال تلك الهيئات مع إعفائها من سداد الأقساط والفوائد ، وذلك فى إطار الرغبة لإعادة التوازن المالى إليها. ولكنه أدى إلى تضخم رؤوس أموال هذه الهيئات بما لا يتناسب مع نشاطها كما أن هذه الزيادات فى رأس المال لا يقابلها أصول حقيقية بل إن جزءا منها يمثل ما حصلت عليه من إعانات لسد العجز. بل وصدرت عدة قرارات أخرى بإسقاط جزء من القروض المستحقة على بعضها مثل السكك الحديدية واتحاد الإذاعة والتليفزيون. ورغم هذه الإجراءات فإنها لم تحقق تقدما يذكر فى هذا الشأن . ويرجع السبب فى ذلك الى العديد من الأمور المهمة على رأسها الاختلالات فى اقتصاديات تشغيلها ومراكزها المالية وهو ما يتمثل فى اختلال التوازن بين التكاليف والأسعار وقصور الموارد عن تغطية الاستخدامات مما يؤدى إلى ازدياد العجز المرحل سنويا فضلا عن تآكل الأصول الحقيقية لهذه الهيئات نتيجة لما تتحمله من فروق أسعار لخدماتها بين أسعار البيع وتكاليف الإنتاج الفعلية. هذا فضلا عن قيامها بتنفيذ حجم كبير من الاستثمارات دون أن يقابله موارد ذاتية مناسبة وهو ما يؤدى أما إلى التأخر فى تنفيذ المشروعات لسنوات طويلة مما يؤدى إلى المزيد من الطاقات العاطلة وهدر الموارد ناهيك عن حرمانها من العائد الذى ستدره هذه الاستثمارات. أو يدفعها للاقتراض من بنك الاستثمار القومى والذى يقتر ض بدوره من الأوعية الادخارية فى المجتمع مما ينعكس بالضرورة على الدين العام وزيادته سنة بعد أخرى. ناهيك عن أن عددا من تلك الهيئات يغلب عليه الطابع الخدمى وليس الاقتصادى ويقدم مشروعات خدمية لخدمة المواطنين ولاتولد تدفقا نقديا يغطى أعباء الاقتراض والتمويل وهو ما ينعكس على التزامات الدولة قبل الدائنين لهذه الهيئات. يضاف إلى ماسبق أن هذه الهيئات مازالت بعيدة عن الرقابة الحقيقة المسبقة من أجهزة وزارة المالية ، وذلك بعدما خرجت عن الإطار المالى الملتزم. اذ لا توجد قواعد موحدة لتوزيع فائض العمليات الجارية فالبعض يحتفظ بالفائض المحقق فى صورة فائض مرحل واحتياطات فى حين يئول فائض بعض الهيئات بالكامل إلى الحكومة، لذا وجب إصدار تشريع لتعديل القوانين المنظمة لعمل هذه الهئيات. مما سبق يتضح لنا ان هذه المشكلات تتطلب العمل على حلها وذلك بالعمل على عدة محاور منها ضرورة النظر فى طبيعة هذه الهيئات جنبا إلى جنب مع الهيئات الخدمية فى الموازنة العامة للدولة وتحويل الخدمى منها إلى الموازنة وإخراج الهيئات ذات الطبيعة الاقتصادية من الموازنة مثل هيئة الثروة المعدنية التى يجب أن تعمل كهيئة اقتصادية وفى المقابل تحويل هيئة ضمان جودة التعليم أو المعهد القومى للإدارة إلى هيئات خدمية وهكذا, ويرتبط بذلك إعادة النظر فى تبويب هذه الهيئات وذلك بتبويبها فى مجموعات متجانسة واتباع سياسات اقتصادية محددة تحقق الهدف من استقلالها على أن تقوم بإنتاج السلع والخدمات على أسس اقتصادية تمكنها من تحقيق فائض مالى . ومن الضرورى العمل على ان تقوم الهيئات التى تبيع إنتاجها بأسعار اجتماعية بالعمل على الوصول بالأسعار إلى السعر الاقتصادى تدريجيا وخلال فترة زمنية محددة. وبمعنى آخر توفير المرونة فى نظم التسعير ودراسة إمكان تحريك الأسعار بما يتفق مع التغير فى التكلفة والأرقام القياسية للأسعار دون التأثير على محدودى الدخل من خلال سياسة التمييز السعرى وفقا لشرائح الاستهلاك والقدرة المالية للمستهلكين.مع النظر فى تحويل بعضها الى شركات قابضة مما يمكنها من إعادة هيكلة أصولها وخصومها وتصحيح الأوضاع المالية لها. وهذا لاينفى ضرورة العمل على دراسة اقتصاديات التشغيل بما يقضى على اوجه الإسراف ومراجعة نظم التشغيل وقوائم التكاليف لترشيد وضبط الإنفاق وتفعيله مع تعميق المحاسبة عن الأداء على مستوى مراكز المسئولية واستغلال الطاقات العاطلة. مع التخلص من الأنشطة غير الاقتصادية، مع الاهتمام بالصيانة الدورية لتحجيم الأعطال ولتأمين نظم التشغيل. وفض التشابكات المالية بين الهيئات الاقتصادية وبعضها البعض، وبينها وبين الحكومة.وتوحيد المعاملة فى استخدام الفوائض بمراعاة القواعد المحاسبية فى احتجاز الاحتياطات اللازمة للوفاء بأقساط القروض او لتدعيم مراكزها المالية. جنبا الى جنب مع ضرورة إجراء الدراسات الجادة والموضوعية لكل هيئة على حدة لدراسة أسباب العجز ووضع الحلول المناسبة لمساعدة تلك الهيئات على استعادة توازنها المالي. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي