انهم يدفعون بالأحداث الي المسار الكارثي الذي يحاول المجلس الأعلي للقوات المسلحة تفاديه والابتعاد عنه بكل هذا القدر الذي لم يكن متوقعا من ضبط النفس والتحلي بالصبر والتمسك بالسير الي آخر المدي في خريطة الطريق نحو الدولة المدنية التي تؤسس للجمهورية الثانية درة تاج ثورة 25 يناير.. خلت شوارع القاهرة والمدن الكبري طوال يوم الجمعة من المارة, وحبست مصر أنفاسها بينما كان كل أبنائها المخلصين قابعين داخل بيوتهم في هلع وقلق وعيونهم شاخصة الي المصيبة الكبري التي حلت بالثورة المصرية التي تكاد تختنق وتلفظ أنفاسها الأخيرة علي أيدي هؤلاء الذين راحوا يكررون الأحداث نفسها التي كانت تصاحب دوما كل خطوة جادة نحو الانتهاء من مرحلة بناء الدولة الحديثة.. والخطوة هذه المرة هي الخطوة الأخيرة انتخاب الرئيس واعداد الدستور, والمستهدف هذه المرة هو الحصن الأخير لمصر والشعب والدولة ممثلا في قواته المسلحة التي وصفها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بأنها خير أجناد الأرض وهو الذي لا ينطق عن الهوي مهما حاول المرجفون والمتلهفون علي غنيمة الوطن الكبري أن يتطاولوا عليه وعلي أبنائنا واخوتنا بين صفوفه الذين تحملوا في سبيل حماية شعبهم وثورتهم ما لا يمكن أن يحتمله بشر.. ولعل القارئ الكريم قد لاحظ أنه في أثناء أزمة الجمعة الحزينة خرج علينا البعض في محاولة للتشكيك في مصداقية حديث الرسول الكريم حول مصر وأجنادها, وهو ما يؤكد جدية هؤلاء في محاولاتهم المستمرة في الايقاع بالقوات المسلحة برمتها وليس فقط في اسقاط المجلس العسكري.. هل هناك سخف وخفة وخروج عن الأمة أكثر من ذلك؟!. ما حدث أمام مقر وزارة الدفاع كان مصيبة كبري وكابوسا جثم علي صدور المصريين غير مصدقين أن يكون هؤلاء من أبناء جلدتهم وهم يحملون كل هذا الحقد والغل ضد جيشهم النبيل الذي انحاز الي الثورة علي الظلم والطغيان, وأقسم علي ادارة الدولة في مرحلتها الانتقالية بقدر ما يستطيع من جهد وما يحمل من خبرات محدودة في العمل السياسي بحكم الانتماء الي مؤسسة عسكرية تفرغت تماما لحماية الوطن ضد أعداء الخارج.. ومنذ اللحظات الأولي لنزول الجيش الي الشارع يوم28 يناير كانت مهمته حماية شرعية الميدان التي صاغها الملايين من أبناء مصر الشرفاء مقدمة علي واجب حماية الشرعية الدستورية التي كانت حتي هذه اللحظات الحرجة من تاريخ الوطن في صالح النظام السابق, واختار قادة المجلس الأعلي للقوات المسلحة بدون تردد الانحياز للثورة بكل أهدافها, ولم يكن في الحسبان علي الاطلاق والأمر هكذا أن ينطلق من بين شباب الثورة من يطعن قواته المسلحة من الخلف بكل هذه الخسة والنذالة. مسئولية احداث الجمعة الدامية تقع علي عاتق هؤلاء الذين أعلنوها صراحة: انها الحرب والجهاد من اجل مرشح مستبعد, واولئك الراكبون علي اكتاف الثورة وهي منهم براء ممن يدعون الي هدم اركان الدولة, وهؤلاء الذين يطلقون نعيق البوم علي حسابات الفضاء الالكتروني متخفين وراء تغريدات البلابل مدعين ان هناك قمعا للمتظاهرين السلميين قبل وقوع كارثة الاربعاء السابق لأحداث الجمعة بثلاثة ايام, وكذا اولئك الذين وافقوا علي قواعد واسس اختيار اللجنة التأسيسية للدستور ثم عادوا ليرفضوها من خلال البرلمان. أطراف عدة شاركت في تهيئة المناخ والتحريض علي احداث المصيبة الكبري وكل له حساباته الضيقة التي قدمها علي مصلحة الوطن في الاستقرار والخروج من عنق الزجاجة أو من ذلك النفق المظلم.. أطراف عدة ساهمت في تكوين العقل الجمعي لمجموعات من الشباب البائس واليائس والمغيب والجاهل بحقائق الأمور, والسيطرة عليه وتوجيهه الي غير الوجهة الحق.. والمؤسف أن أغلبية مرشحي الرئاسة قد ركبوا الموجة وانهالوا بالطعن علي القوات المسلحة أملا في كسب صوت من هنا وصوت من هناك, فيما بقي اثنان فقط من المرشحين ثابتين علي موقفيهما تجاه ضرورة الحفاظ علي هيبة وسلامة القوات المسلحة وادانة أي محاولات للنيل منها, ادراكا بأنها الحصن الأخير الذي اذا سقط, تداعت كل مقومات الأمة وضاعت كل الاحلام في بناء الدولة الحديثة.. عمرو موسي وأحمد شفيق. ولعل موقف هذين المرشحين من هذه الأحداث المؤسفة الحزينة يعلن بجلاء عن الفارق الجوهري بين رجال الدولة وبين رجال كل همهم البحث عن سلطة ووجاهة كرسي الرئاسة حتي ولو كان قطعة من الديكور.. ولعل ايضا موقف هذين المرشحين موسي وشفيق من مسألة صلاحيات الرئيس في الدستور الجديد وضرورة أن تكون هذه الصلاحيات قادرة علي تمكينه من الفعل الجاد نحو تطبيق برامجه في ظل رقابة صارمة من البرلمان.. لعل ذلك يوضح أننا في هذه المرحلة التاريخية نحتاج الي رجل دولة يبتعد عن الشعارات الرنانة ويقترب أكثر من الواقع المرير بخطي ثابتة لتغييره الي الأفضل. لقد تصور البعض أن هدم وزارة الدفاع والايقاع بها وهو هدف معلن منذ اسابيع قليلة بعد اندلاع الثورة والتأكد من سقوط النظام السابق يمكن أن يحقق الاستقرار والأمن والعدالة والحرية.. اقل ما يوصف به هذا الاعتقاد أنه نوع من الأوهام والتمنيات الشيطانية التي سوف تدخل البلاد في دوامة لاتنتهي من القلاقل وربما يغري مثل هذا الوضع لا قدر الله دولة اسرائيل لإعادة سيطرتها علي سيناء الي حين ان تتضح الرؤية ويكون في مصر دولة ونظام وحكومة يمكن التحدث معها.. بخلاف حمامات الدم التي سوف تسيل في الشوارع والحواري والأزقة. وفي هذه اللحظات التاريخية ورغما عن كل الأحداث المؤسفة التي وقعت والتي لا تعبر عن الثورة المصرية ونقائها ومشروعيتها, من المؤكد ان المجلس الأعلي للقوات المسلحة سوف يصر علي انهاء كل خطوات التحول الديمقراطي وفقا للاعلان الدستوري والبرنامج الزمني المحدد لتسليم السلطة الي الرئيس المنتخب.. ولكن من المؤكد ايضا أنه عند تسلم الرئيس الجديد لمسئولياته, واذا استمرت هذه الفوضي المدمرة من جانب أنصار الفرقاء الخاسرين, واذا أثيرت الاتهامات التي يجري تجهيزها من الآن بتزوير الانتخابات, سيكون لكل حدث حديث حيث لا يمكن أن تستمر سياسات الطبطبة والدلع الماسخ لتحدد مصيرا مجهولا لدولة في حجم ووزن مصر. ولعل الجميع قد استوعب الدرس من أحداث الجمعة الدامية.. تستطيع القوات المسلحة- المتحصنة بتأييد واسع المدي من كافة قطاعات الشعب المصري أن تفعل في الوقت المناسب ماهو ممكن لصالح استقرار الوطن.. وهي قد اتخذت في هذا الشأن الحد الأدني من الاجراءات الضرورية, وفي صباح اليوم التالي كان المرور قد انساب في شارع الخليفة المأمون ومحيط منطقة العباسية, وكانت قد أزيلت تماما كل مظاهر ومخلفات الفوضي.. وكأن شيئا لم يكن.! المزيد من مقالات محمد السعدنى