د. محمد المنسى قنديل روائى متفرد، يجيد صنع عوالمه وشخصياته بتقنياته الخاصة التى لا يشبه فيها غيره، فتجده يغوص فى أعماق الشخصيات، أو يسبر أغوار حدث غامض فى التاريخ، أو يحول مكانا ما إلى أسطورة ويكتشف فيه ما لم يكتشفه غيره، وهو مع كل ذلك يصبغ الأحداث بصبغته الخاصة التى تجعل القارئ يعيش حالة لهفة لا تنتهى إلا مع السطر الأخير للرواية. { روايتك الأخيرة «كتيبة سوداء» اعتمدت على حدث نسيه التاريخ.. فكيف تذكرته أنت {{ عندما كنا نجلس مع أستاذنا نجيب محفوظ فى المقهى، كان يطالبنا باستكشاف جغرافيا جديدة للرواية، وينصحنا بالعمل على توسيع «فَرشة» الرواية العربية بحيث تشمل مناطق أخرى، وأنا حرصت دائما على ذلك، ولذلك فإن كل رواية من رواياتى تدور فى جغرافيا مختلفة، وأحاول أن أخرج عن ذاتى، لأن هناك من يقولون إن الكاتب يكتب رواية واحدة ثم يعيد كتابتها طوال الوقت، وأنا أحاول مقاومة الإحساس بأنى أعيد كتابة الرواية التى أحبها، ولذلك فأنا أبحث دائماً عن الموضوعات الجديدة. وأمر مشاركة جزء من الجيش المصرى فى حرب بالمكسيك كان غاية فى الإثارة، وعندما طرأت الفكرة بذهنى لم تكن هناك معلومات متوافرة عن الموضوع، كان هناك – فقط - كتاب صغير كتبه طوسون باشا اعتمد فيه على الوثائق التى توفرت له لقربه من الخديو ومن أرشيفات الحربية المصرية. يؤكد الكتاب أن الواقعة حقيقية وينقل أسماء الجنود الذين سافروا والجنود العائدين منهم، والمراسلات التى تبادلتها الكتيبة مع القيادة المصرية، لكنها معلومات قليلة جدا، فسافرت إلى المكسيك وشاهدت بنفسى الأماكن التى حاربوا فيها، وطبعا كانت الآثار المتبقية عن الكتيبة قليلة، لأن الواقعة مرَّ عليها حوالى 180 سنة، فزال الكثير من آثارها، لكنى استطعت أن أزور خمس مدن من المدن السبعة التى حاربوا فيها، وشاهدت الجبل الذى حاربوا عليه والغابة التى نُصب لهم فخ فيها، ووقفت على نهر الفراشات الذى حاولوا عبوره وغرق بعضهم فيه، وتخيلت وقتها أنى رأيتهم ورأيت جثث قتلاهم وهى تطفو على سطح الماء، وكان فى ذهنى قبل السفر إلى المكسيك نصف رواية، لكن هناك اكتملت الرؤية. ووجدت أن اللعبة كانت أكبر من هؤلاء، وأنها كانت عبارة عن رقعة شطرنج يلعبون فيها دور البيادق، لكن كان هناك ملوك وأمراء ووزراء ومؤامرات، فأردت أن آخذ جزءا من ذلك العالم وأضعه فى الرواية. { قلت إن لديك مشاريع لتدوين تاريخ مصر.. فهل تعد الرواية جزءاً من هذه المشاريع؟ {{ نعم.. وأنا فى كل رواية أعود فى التاريخ للخلف، فكلما وجدت فترة مظلمة أحب أن أكشف عنها، وأمنحها بعداً أكثر إنسانية. بدأت فى «انكسار الروح» بمعالجة علاقة جيلنا بالنكسة، وكتبت «يوم غائم فى البر الغربى» عن فترة فى نهاية القرن التاسع عشر، ثم عدت للخلف أكثر فى «كتيبة سوداء» وسأعود لفترات أبعد من التاريخ أكثر في كتاباتى القادمة. { «أنا عشقت» رواية كتبتها لأول مرة بأسلوب «رواية الشخصيات» حيث تتبادل كل شخصية الحكى والقيام بدور الراوى.. لماذا اتبعت هذا الأسلوب فى كتابتها؟ {{ ما يحيرنى فى كل رواية أكتبها هو «التكنيك» أو بنية الرواية وكيفية كتابتها. فرواية «انكسار الروح» عبارة عن مونولوج طويل متصل بلا فواصل، لأن إحساسى أن هذه الرواية كانت دفقة شعورية واحدة، وروجعت من البعض بسبب هذا الأسلوب فقالوا لى إنه لا يريح القارئ، فبدأت أبحث فى شكل الرواية. فى «قمر على سمرقند» عملت شكل الحكايات، كل مكان له حكاية لأنها كانت –بالأساس- قصة رحلة فى سهول آسيا وأوزبكستان فى فترة ولادتها كدولة، ثم كتبت «يوم غائم فى البر الغربى» وهى رواية أمكنة فى بلد يحاول أن يبحث عن هويته فى كل مكان، وأنا مغرم بالمدن المصرية وأسمائها، وأحب أن أؤرخ لها ولأماكنها، ولهذا فقد كتبت الرواية على أسماء المدن المصرية، أما «كتيبة سوداء» فقد كتبتها حسب سنوات الحرب الأربع التى قضتها الكتيبة المصرية فى المكسيك. أما «أنا عشقت» فقد كانت –بالفعل- رواية شخصيات، كل شخصية تحكى همومها فتصنع نوعاً من الرؤى المتوازية، وكلما مضى القارئ فى الرواية يستكشف جانباً جديداً من الحقيقة لم يكن يعرفه، والجمال فى هذا الأسلوب أن القارئ يكون مُلما بكل الأحداث بينما لا تعرفها الشخصيات نفسها، فكل شخصية تروى وجهة نظرها دون أن تعرف ما ترويه الشخصيات الأخرى، وهذا يُشعر القارئ بأنه جزء من الموضوع لأنه يقوم بتجميع خطوط الرواية كما يجمع قطع الفسيفساء ويضعها متجاورة بحيث تتضح له الصورة. { دراسة الطب النفسى، وكثرة أسفارك.. إلى أى مدى أثرا فى كتاباتك الإبداعية؟ {{ كثرة الأسفار فتحت ذهنى على العالم، وأصبحت اكثر تقبلاً لأفكار جديدة ولم أعد أنظر لأى شئىء بمنظور ضيق حتى الأخلاق والدين والسياسة، بل أنظر للحياة كلها بأفق منفتح، وأؤمن بأن العالم ملئ بالثقافات والأنماط المتغيرة، وتعلمت ألا أكتب إلا عما أثق فيه لأن أى نوع من الكذب سرعان ما ينكشف. أما الطب النفسى فمجاله هو نفس مجال الأدب، لأنهما يدرسان الإنسان، فيدرسه الطب من الناحية المادية والفسيولوجية والبيولوجية، أما الأدب فيدرس العواطف والغرائز والأخلاق، فالأدب والطب النفسى يتكاملان معاً، وأنا استفدت من ذلك كثيراً. { «انكسار الروح».. أول رواية لك والتى وصفتها بأنها أفضل رواياتك.. ماذا تمثل لك؟ {{ هذه هى روايتى الأساسية، ومقولة أن الكاتب يكتب رواية واحدة ويظل يكررها أعتقد أنها صحيحة –إلى حد ما- بالنسبة لانكسار الروح، فكثير من الحيل الفنية والمواقف التى كتبتها فى «انكسار الروح» أجدها موجودة فى بقية رواياتى، وأنا أقوم بالتعديل والحذف فى رواياتى لكى أُخرج من مصيدة الرواية الأولى. { «فاطمة» بطلة «انكسار الروح» التى تمثل حلم الرومانسية لجيل كامل، أنهيت قصتها بالضياع.. لماذا؟ {{ لأنها تمثل جيلاً كاملاً بالفعل، وهو جيل حزين ضائع عاش أحلاماً كبيرة جدا، جيل كان يعتقد أنه سيملك العالم وسيتخطى كل الحدود، وانتهى الأمر به إلى الإصابة بنكسة مروعة جعلته يفقد أهميته، ولا يمكن تصور ما فعلته بى النكسة، فأنا كنت أعتقد أن مصر هى أعظم دولة فى العالم، وبعد النكسة أدركت أن كل هذه الأحلام كانت مجرد واجهات ورقية أسقطتها الرياح، ومازلت حتى الآن أحاول أن استنهض فى نفسى بقايا هذا الحلم القديم. { الملاحظ أنك ترتبط بالواقع فى رواياتك بعيداً عن الخيال المحلق... {{ عندما كتبت رواية «أنا عشقت» عن فتاة ذهبت لوداع حبيبها فى محطة القطار فتجمدت فى مكانها لا حية ولا ميتة.. كنت أعتقد أنى أكتب رواية خيالية لا يمكن أن تحدث فى الواقع، وكان أملى الوحيد أن يصدق القارئ هذا الخيال. وبعد فترة جاءتنى رسالة من شخص لم يقرأ الرواية لكنه شاهد المسلسل الذى أُخذ عنها، وقال لى إنى كتبت قصة حياته، فهو كان موظفا بجمرك الإسكندرية لكنه تورط فى قضية وسُجِن، وكانت خطيبته – من فرط حزنها عليه - تصاب بنوبة إغماء متكررة تشبه الموت، وفى كل مرة تُصاب بها كانوا يجهزون الكفن تمهيداً لدفنها لكنها تعود للحياة مرة أخرى. فأنا كنت أكتب خيالاً ولكنى وجدت أن الواقع أقوى جدا من أى خيال، وأن ما افترضت استحالة حدوثه فى الواقع وجدته يحدث فى الحياة، فلا فارق بين الواقع والخيال، ومهما اعتقدنا أننا نجنح بخيالنا بعيداً فسنجد فى الواقع الكثير مما يشبه ما يدور فى خيالنا، وهكذا فلا يمكن أن ننزع أنفسنا من الواقع، وأنا أحاول ان أكون أكثر خيالية، لكن الواقع أقوى منا جميعاً.