تحدثت فى عدد سابق عن خمس دوائر للأمن القومى المصرى، وهى الدائرة العربية، والدائرة الإفريقية، ودائرة البحر الأبيض المتوسط، ثم دائرة حوض نهر النيل، وأخيراً دائرة البحر الأحمر. واليوم أستعرض معكم، باستفاضة، دائرة البحر الأحمر، كواحدة من أهم الدوائر الاستراتيجية للأمن القومى المصرى، والتى تؤثر بشكل مباشر، وفعال على أمن مصر، وسلامتها، واقتصادها فى الفترة المقبلة. حتى وقت قريب، كنا فى حديثنا عن البحر الأحمر، تسود كلمة «بحيرة عربية». فكل الدول المطلة على البحر الأحمر ... مصر والسعودية والسودان واليمن وأريتريا وجيبوتى والصومال ... كلهم أعضاء فى جامعة الدول العربية. وأتذكر أن مصر خلال التخطيط لحرب أكتوبر 73، أرادت توجيه ضربة قوية، وموجعة إلى إسرائيل، وهو ما دعا المخطط المصرى للتفكير فى ضرورة إغلاق الملاحة الإسرائيلية فى منطقة باب المندب أمام السفن الإسرائيلية، أو السفن التى تحمل بضائع إلى إسرائيل عن طريق ميناء إيلات. ومن يوم السادس من أكتوبر، أصبح ميناء إيلات أشبه بمدينة الأشباح. وأتذكر أول يوم فى مباحثات الكيلو 101، عندما عاد اللواء الجمسي، آنذاك، إلى القيادة العامة، وكنا جميعاً فى انتظاره لمعرفة ما حدث، فكان أول ما نطق به عند دخوله غرفة العمليات، لمقابلة المشير أحمد إسماعيل ليقدم له تقريره، أن قال زيا فندم موضوع إيلات ده وجعهم أوى ... معظم مناقشاتهم على الترابيزة ... افتحوا باب المندب ... وكان الرد أمام معظم طلباتنا ... طيب افتحوا باب المندب وأضاف اللواء الجمسى «وإحنا بنركب العربيات، كانت آخر جملة قالها رئيس الوفد الإسرائيلى هارون ياريف، مدير المخابرات الإسرائيلية أوعى تنسى فتح الملاحة فى باب المندب» ... بعدها أغلقت الأبواب على اللواء الجمسى والوفد المصرى والمشير أحمد إسماعيل، ليشرح له تفاصيل ما تم. أما أنا، فخرجت من ذلك الاجتماع وفى ذهنى كلمة واحدة ... باب المندب. ويجب التأكيد أن إغلاق مضيق باب المندب فى وجه الملاحة الإسرائيلية، تم بناء على خطة مصرية، بالغة الدقة ... والسرية. حيث تم استطلاع الجزر المسيطرة على مضيق باب المندب، وتم تحديد أماكن تمركز القطع البحرية المصرية التى ستغلق الملاحة، كما تم التنسيق مع الجانب اليمنى على أسلوب تقديم الخدمات اللوجستية لهذه القطع البحرية، دون أن يعلم الجانب اليمنى أى شئ عن طبيعة العملية، أو المهمة ... فقد تم كل ذلك تحت مسمى شركات مدنية، تجارية ... فتحقق، بذلك، لهذه العملية أكبر قدر من السرية ... فلم يعلم بها الجانب الإسرائيلى إلا يوم السادس من أكتوبر، الساعة الثانية عشرة ظهراً، عندما أعلنت مصر إغلاق الملاحة فى باب المندب أمام السفن الإسرائيلية. وبعد حرب أكتوبر 73، حاولت إسرائيل الوجود فى هذه الجزر بأى شكل من الأشكال ... أو حتى وضع نقط للمراقبة، إلا أنها لم تنجح بفضل يقظة المخابرات المصرية. وظلت هذه المنطقة هادئة، حتى تدهور الوضع الأمنى فى الصومال؛ عندما عجزت الصومال عن السيطرة على الفئات المتناحرة، والمقاتلة. حيث قامت عناصر مسلحة باعتراض السفن الدولية التى تعبر باب المندب، وظهر لأول مرة فى هذه المنطقة أسلوب القرصنة البحرية ضد هذه السفن. وعلى الفور تحركت مصر، ومعها بعض الدول الأوروبية، وأمريكا وتم تكوين قوة بحرية Task Force للتصدى لهذه القرصنة، واعتمدت على القواعد البحرية، الفرنسية والأمريكية، فى جيبوتي. وخلال بضعة أشهر، تم القضاء على هذه العناصر من القراصنة الصوماليين، وعاد الأمن إلى منطقة باب المندب، وإن كانت المراقبة مازالت مستمرةهناك، لضمان عدم عودة هؤلاء القراصنة الصوماليين مرة أخرى. وبتدهور الوضع حالياً فى اليمن، وبسيطرة الحوثيين وأنصار على عبد الله صالح على اليمن الشمالية، وعدن، عاد التهديد مرة أخرى لمضيق باب المندب. وأعتقد أن الحوثيين وأنصار على عبد الله صالح، كانوا من الذكاء بعدم التعرض للملاحة فى باب المندب... خشية انقلاب المجتمع الدولى عليهم، حتى عادت السيطرة مرة أخرى على منطقة باب المندب للقوات الشرعية اليمنية. ولقد قصدت من هذا السرد التاريخى المفصل توضيح أهمية هذا المضيق للملاحة العالمية أولاً ... ولمصر وقناة السويس ثانياً، التى تمثل ثلث الدخل القومى المصرى. من ذلك العرض تبرز أهمية تأمين هذه الدائرة المهمة من دوائر الأمن القومى المصري، وأرى أن التعامل مع هذه الدائرة يرتكز على محورين أساسيين؛ المحور الأول: المحور العربي... وذلك من خلال اتفاقية دولية لتأمين المنطقة بالكامل تضم جميع الدول المطلة على البحر الأحمر مصر والسعودية والسودان واليمن وأريتريا وجيبوتى والصومال وذلك فى إطار اتفاقيات عديدة ... ليست، فقط، على الجانب العسكرى... بل يجب العمل على تقوية العلاقات الاقتصادية مع هذه الدول، خاصة إريتريا وجيبوتى والصومال. هذا فضلاً عن العلاقات السياسية، إضافة إلى المجالات الثقافية. وأخيراً يتوج هذا كله بالتعاون العسكري. ولا أريد الخوض فى المجال العسكري، فهذا مجاله الخطط العملياتية المشتركة بين هذه الدول، والتدريب المشترك، والتعاون المعلوماتى ... مع الوجود الدائم والمستمر فى الجزر الواقعة على الممر الملاحى ... ليس بالضرورة بالقوات، ولكن بالبدائل الأخرى المتاحة ... تكون فيها الأعين المصرية تراقب ... وتحذر من أى وجود أجنبى فى ذلك القطاع. المحور الثانى: المحور الدولي... وذلك من خلال اشتراك مصر مع القوى العالمية التى يمكن أن تتأثر بأى اضطرابات فى مضيق باب المندب، والملاحة فى قناة السويس. ويكون ذلك بالاستفادة من الخبرة المكتسبة من شكل التجمع القتالى الذى تم، من قبل، للقضاء على تهديد القراصنة الصوماليين، من خلال دور مصر بالتعاون مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفرنسا،وألمانيا، وإنجلترا، وإيطاليا، وغيرها من الدول الأوروبية، بإعداد خطة تأمين يتم فيها تحديد حجم القوات المشاركة فى التأمين، وأسلوب التعاون، وشكل القيادة العسكرية لهذه القوات، إضافة إلى تنظيم العمليات اللوجستية لتحقيق التأمين الإداري، والطبى للعناصر المشاركة فى ذلك التجمع القتالي. ويفضل، بالطبع، أن تعمل الدبلوماسية المشتركة لهذه الدول على أن يخرج ذلك كله فى إطار قرار من الأممالمتحدة، لإضفاء الشرعية الدولية على عمل هذه القوات. إن دائرة الأمن القومى فى البحر الأحمر من أهم الدوائر حالياً ... لدورها فى تأمين قناة السويس كأهم مجرى مائى فى العالم ... كما تؤمن المشروعات الاستثمارية فى محور قناة السويس ... ليس لمصر فقط ... وإنما للتجارة العالمية كلها. لمزيد من مقالات لواء أ. ح. د. م. سمير فرج