سوف ينتظر العرب طويلا الي ان يميل ميزان السياسة الأمريكية ناحيتهم, وحتي لو حسنت نوايا الرئيس وإدارته, فإن الإدارة التقليدية للسياسات الخارجية العربية, حتي لو صلحت في التعامل مع أي دولة في أوروبا أو غيرها, فهي لا تصلح مع أمريكا... حدث في لقاء لي مع مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشرق الأوسط, في النصف الثاني من التسعينيات, ان قال: ان العرب يتعاملون مع سياسة أمريكا الخارجية بالطريقة التي لا تصلح لها, فهم يتصورون ان نظامها السياسي كأي نظام آخر, علي حين انه مختلف. ولعله أضاف الي معلوماتي ما سبق ان درسته في ورشة عمل أمريكية عنوانها: صناعة قرار السياسة الخارجية الأمريكية, وكانت أول محاضرة فيها بعنوان كيف أن أمريكا مختلفة. وربما يساعد معرفة المقصود بكيف أنها مختلفة, في تفسير ما نراه من تناقض صارخ في مواقف الإدارة الأمريكية من حل النزاع العربي الاسرائيلي. مع الأخذ في الحسبان, ان ادارة السياسة هناك فيما يتعلق باسرائيل, لها أسباب مضافة وذات خصوصية, تجعلها تختلف عن إدارة السياسة الخارجية الأمريكية بشكل عام. من البداية ينبغي عدم تجاهل وجود صفات خاصة للنظام السياسي في الولاياتالمتحدة, جعلت أحد المسئولين يصفه بقوله نحن مجتمع الضغوط. فالنظام السياسي يسمح بوجود سبع قوي فاعلة لكل منها دور ضاغط علي عملية صناعة قرار السياسة الخارجية. من بينها في المقدمة, الرئيس الذي يتمتع بسلطات أقوي في تحديد فلسفة وتوجهات السياسة الخارجية, ومن بعده الكونجرس الذي يصفه الدستور شريكا للرئيس, ثم تأتي أدوار القوي الخمس الأخري وهم: جماعات المصالح وقوي الضغط والنخبة من المتخصصين وأهل العلم والخبرة وأجهزة الاعلام والرأي العام. وكل من هؤلاء ينشط في استخدام ما لديه من أدوات النفوذ والتأثير, للضغط حتي يأتي القرار لصالحه, ولأن الرئيس محكوم بحركة القوي الفاعلة في هذه الخريطة, فهم يشبهونه هناك, بمن يمسك في يده بميزان, بحيث يضع أصحاب المصالح المتضاربة مالديهم من ثقل في الكفة التي تخصهم, وفي النهاية يميل القرار ناحية الكفة التي ترجح. وفي حالة صدور قرار يخص العرب واسرائيل, يكون السؤال: أي ثقل وضعوه في كفتهم؟. ولا يخفي علي أحد حجم أوراق الضغط التي تضعها القوي اليهودية وانصارها في كفتهم, ولا يقتصر الضغط اليهودي علي ما يتمتعون به من تأثير علي اعضاء الكونجرس, لكن لأنهم عرفوا طبيعة النظام السياسي وطريقة عمله, فهم يخاطبون الرأي العام, وإعلامه, ليل نهار, من خلال مراكز بحوث, ومؤتمرات, وندوات, الي جانب مراكز صناعة المعلومة بالطريقة التي تخدم وجهة نظرهم, فعندما تكون هناك مناقشة لمشكلة في الكونجرس, أو في البيت الأبيض, ينتظر أن يصدر قرار بشأنها, فإنهم قد جهزوا معلومات عنها مكتوبة فيما لا يزيد عادة علي ورقتين, وترسل بالفاكس أو البريد الالكتروني, الي أعضاء الكونجرس, ومنهم من ليس لديه إلمام مسبق بحقيقة المشكلة, التي سيصوتون عليها. ويتكون لمن يقرأها وبسرعة صورة تحدد موقفه عند التصويت, وترسل الورقتان ايضا الي المختصين بهذا الموضوع في دوائر الحكومة. بالاضافة الي هذا, هناك زيارات الوفود الاسرائيلية التي تدير حوارات في الساحة الأمريكية, فضلا عما يتبعهم من مراكز بحوث متعددة لها تأثيرها البالغ علي صناعة قرار السياسة الخارجية, ولها جدول أعمال لنشاطاتها طوال العام. هذه هي طبيعة النظام السياسي في الولاياتالمتحدة وحين يجد هذا النظام ان كل الضغوط تقريبا تمارس عليه من جانب اسرائيل, فهو يجد ايضا غيابا عربيا سواء في الساحة الداخلية, أو من جانب السياسات الخارجية العربية. حيث تنعدم استراتيجية عربية شاملة, تلعب الدور الملقي علي الدول العربية واجبا ومسئولية, مثلما ان للآخرين استراتيجيتهم, اعتبارها وسيلة حماية للوطن, ومصالح أمنه القومي. ان الطريقة المزمنة عربيا في التعامل مع السياسة الخارجية الأمريكية, هي طريقة تعاني عطبا, ولا تحقق أي نتيجة مرجوة, لأنها تدخل الي أمريكا من الباب الخطأ. فهذه دولة لها نظام سياسي له طبيعته وخصوصيته, وهو نظام ليس مغلق الأبواب, فالساحة الأمريكية مسموح فيها بالدخول لمن يرغب في ممارسة دوره وضغوطه تعبيرا عن مصالحه, وكل الدول تفعل ذلك بما فيها دول كبيرة كالصين, والهند, لها مؤسسات الضغط التي تمثلها هناك. بل إن أصغر الدول لا تعدم هذه الوسيلة, ولدينا مثال الأمريكيين من أصل ألباني, فلهم قوة ضغط منظمة ونشطة, تتحرك عند الضرورة, لصالح أي قرار يخص ألبانيا. كل هذا لا ينفي ان الرئيس يتمتع بالقدرة الأكبر علي صناعة القرار, وهي فوق قدرة المؤسسات, خاصة في مراحل التحولات التاريخية, وفي أوقات الأزمات الكبري, وحين يكون مفوضا من شعبية بالتغيير, لكن حين يأتي الأمر الي النزاع العربي الاسرائيلي, فإن ما يؤثر فيه أولا وأخيرا, ان يكون أحد طرفي النزاع قد كثف ضغوطه, بينما الطرف الآخر يتصرف وكأن المطلوب من الآخرين ان يتصرفوا نيابة عنه!. إن التأثير علي قرار السياسة الخارجية للولايات المتحدة, له عدة مفاتيح, وليس مفتاحا واحدا, ومن يسعي وراءها ويمسك بها بين أصابعه, هو القادر علي أن يجعلهم هناك يضعونه في اعتبارهم, حين يخططون لسياستهم, في التعامل مع العرب ومع اسرائيل.