أحد مساعدي وزير الخارجية الأمريكية, له عبارة, علقت في الذاكرة, قالها في لقاء لي معه بالخارجية الأمريكية أثناء فترة عملي في واشنطن في منتصف التسعينات, يومها قال: إن العرب يكتفون بدخول أمريكا من باب واحد, ولا يطرقون بقية الأبواب فلا يراهم أو يسمعهم من يشغلون مختلف مواقع المشهد السياسي في الولاياتالمتحدة. كان قصده أنهم يركزون علي البيت الأبيض, وربما الكونجرس, لكنهم يعطون ظهورهم لمواقع التأثير الفعلي علي صناعة القرار1. فالنظام السياسي الأمريكي يسمح لعدد آخر من القوي بأدوار مؤثرة وضاغطة علي من في يده القرار. هذه الواقعة تدعو للتساؤل عما يعوق العرب اليوم عن الدخول الي ساحة التأثير, خاصة أن فيها الآن أوضاعا يمكن لهم استثمارها لتعزيز قضيتهم, علي الأقل فليفعلوا ولو قليلا مما برعت اسرائيل في أن تفعله هناك. وليس أيسر عليهم من وضع خطة يقيمون بها اتصالات منظمة مع مجموعة قوي أمريكية مهيأة لأن تمد يدها إليهم. والأوضاع التي أقصدها تضم ما يلي: وجود قاعدة كبيرة وملحوظة داخل الكونجرس اتفقت مع الصيغة التي أعلنها أوباما, والتي تقول أن الحل الشامل للنزاع العربي الاسرائيلي, وحل الدولتين, وتجميد المستوطنات, هي مصلحة أمن قومي للولايات المتحدة, وأنها تصب في النهاية في صالح أمريكا واسرائيل معا. النشاط المتزايد المساند لرؤية أوباما, داخل مجتمع اليهود الأمريكيين, خاصة بعد ظهور منظمة جي ستريتJ.STREET, التي انتشرت فروعها في أنحاء الولاياتالمتحدة, وضمت شخصيات سياسية يهودية أمريكية مرموقة بينهم مساعدون ومستشاريون للأمن القومي لرؤساء سابقين وسفراء سابقين, وأعلنت رفضها لسياسات حكومة نيتانياهو وطالبت أوباما بالضغط علي اسرائيل لتقبل ما تطالبها به أمريكا. ومازالت حتي الآن تعقد المؤتمرات وتنشر كبريات الصحف مقالات قياداتها. الآراء المعلنة من شخصيات أمريكية لها خبرتها بالشرق الأوسط, والتي تشارك في مؤتمرات وورش عمل, تقول إن رفض نيتانياهو ما طالبه به أوباما, بوقف المستوطنات, هو سلوك مضاد لأهداف سياسة أمريكا الخارجية, ومصالحها في المنطقة. ويبني أصحاب هذه التوجهات مواقفهم علي أساس من أولوية مصالح الأمن القومي لبلادهم وهم في هذا قد طرحوا رؤية, تحمل جوانب تتفق مع الموقف العربي, وهو ما يخلق فرصة ينبغي لمن لديه الجدية والإرادة عربيا, أن يبادر بأن يقيم معهم جسورا, لصياغة شكل من أشكال التعاون, داخل الساحة السياسية الأمريكية. وأن تضم دائرة التعاون, المنظمات اليهودية المعتدلة وبعض أصحاب الاتجاهات الأخري المناصرة للحل العادل, مثل المؤتمر القومي للكنائس الأمريكية وعدد من المراكز والشخصيات التي تبنت أفكار أوباما للحل حتي وإن ظلت للآن مجرد أفكار. عندئذ يصبح السلوك العربي غير الرسمي, عنصرا داعما لوجهة النظر العربية الرسمية, خاصة أن الساحة الأمريكية تشهد الآن صراعا بين القوي المؤيدة لسياسة أوباما, والقوي المعارضة له, وهي التي تضغط عليه بحجج تبرر بها وجهات نظرها مثل قولها: ما الذي يدعو أوباما للدفاع عن اطراف لا تدافع هي عن مصالحها؟! ويدللون علي ذلك بالعراك الفلسطيني الفلسطيني, والانقسام العربي وقولهم كيف لا نقف مع الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة؟! وليس هناك من يقارعهم الحجة بالحجة, ويكشف الممارسات العنصرية في اسرائيل, والتي تهدم مقولة الديمقراطية من اساسها, وسطوة الرقابة العسكرية علي الرأي والفكر. وبالرغم من العلاقة الخاصة بين امريكا واسرائيل, والاقتناع المزمن لدي المؤسسات السياسية, بان تأييد اسرائيل هو واقع مسلم به, وجزء من ثقافة وتقاليد سياسية مقبولة, فضلا عن وجود اعداد كبيرة من معاهد ومراكز البحوث التي تروج ليل نهار لوجهة نظر اسرائيل, فإن هذا لم يمنع الحكومة الاسرائيلية من استمرارية سياستها القائمة علي ادارة حركة علاقات عامة في اتجاه الشعب الامريكي. وهو ميدان له قوة تأثيره في مجتمع يسمح نظامه السياسي لكل من يملك قوة ضغط, بان يمارس ضغوطه علي صانع القرار, مستخدما مالديه من ادوات القدرة السياسية والاقتصادية وغيرها. وهو ميدان تركه العرب خاليا منهم, وهو نوع من تجنب اقتحام قلب المشكلة, والاكتفاء بالدوران حولها من بعيد. اكثر من ذلك انه يحدث حين يكون العرب طرفا في عملية سياسية مع آخرين, ويحددون لانفسهم طريقة للتعامل معها, ويحدث ان تتغير مواقف الآخرين, عما تعاقد عليه الجميع, فان العرب يظلون ثابتين علي طريقتهم الأولي, وكأنه تراث يكون الخروج عليه إثما وخطيئة. ومن امثلة ذلك, عندما تبنت حكومة بوش مبدأ من ليس معنا فهو ضدنا, بديلا عن مبدأ مساحة الاختلاف التي كانت مقبولة ومعترفا بها, فان العرب ظلوا يتعاملون معها بنفس قواعد عمل السياسة الخارجية القديمة. المشكلة ان العرب يمارسون السياسة بمقاييسهم هم, وليس بمقاييس الواقع. بينما الواقع يفتح امامهم الآن فرصة للخروج من تقليد الدوران حول انفسهم, فهناك في امريكا في الميدان الذي تؤثر فيه حسابات السياسة الداخلية, علي مسار السياسة الخارجية, توجد قوي تطالب بما يطالبون به, وهو ميدان غابوا عنه طويلا, مع ان ما يحدث فيه يؤثر علي القوي القابضة بيدها علي صناعة القرار.. في البيت الابيض, وفي الكونجرس.