معظمنا تنتهى علاقته بكيس الزبالة بمجرد التخلص منه وخروجه من باب منزله ولا نهتم ولا نبحث عن خط سير هذا »الشيء المقزز« الذى لا يطيق احد منا ان يمكث فى منزله اكثر من يوم، لكن ما لا نعرفه ان غيرنا ينتظر هذا الكيس بفارغ الصبر لتبدأ رحلة كيس الزبالة يوميا منذ التخلص منه خارجا ليحمله الزبال، وهنا تبدأ رحلته فعندما يمر جامع القمامة يوميا ليأخذ كيس الزبالة فكأنه أخذ بعض الاموال فى يده فيذهب الى منزله ويبدأ بمعاونة اسرته فرز وتقسيم المخلفات كل على حدة، فيتم فصل الكرتون والاوراق عن فوارغ الزجاجات البلاستيكية وكذلك عبوات المياه الغازية -الكانز- وكل ما له علاقة باعادة التصنيع، ومن ثم يبدأ بارسال كل مخلف للتاجر المختص وعادة ما يكون هذا التاجر من نفس مهنته والتى توارثوها أبا عن جد. تبدأ مرحلة »التكبيس« بالنسبة للكرتون وهى كبس الورق بطريقة معينة بواسطة المكبس لتوريده الى مصانع الورق لاعادة تصنيعه، اما بالنسبة لعلب الزبادى فيتم تكسيرها بالكسارة ثم «تخريزها» لتصبح خرزا صغيرا، وذلك بواسطة ماكينة تسمى »الخرازة« وتدخل فى صناعات البلاستيكات ولعب الاطفال ونعول الاحذية وهى استخدامات «غير صالحة للاستهلاك الآدمي»، اما الكانزات وزجاجات المياه الفارغة البلاستيكية فيتم اعادة تصنيعها احيانا الي نفس المنتج اوادخالها فى صناعات اخري. رحلة طويلة ومرهقة جدا لاصحابها الذين يعانون من مشكلات عديدة فعلى الرغم من المكاسب التى تتضح لنا جميعا فإن من يستمع الى معاناتهم وعدم اعتراف الدولة بهم ومد يدها اليهم فهم وحدهم من يملك ان يجعل مصر قطعة من اوروبا، ولكن فى ظل تهميشهم بل ومحاربتهم ومحاولة الكثيرين الاطاحة بهم واقتحام هذا العالم الغريب طمعا فى تحقيق المكاسب التى يحصل عليها ابناء المهنة والذين اقسموا بعدم استطاعة اى شخص ليس ابنا لهذه المهنة ان يقفز عليها، وسيسعون بكل ما اوتوا من قوة ان يحافظوا على اكل عيشهم وقوت اولادهم، لذا حاولوا مرارا وتكرارا الطرق على ابواب المسئولين منذ سنوات طويلة حتى الآن لتتكاتف الدولة معهم، ولكن دون جدوي، والتى استعانت بشركات اجنبية تتقاضى مبالغ ضخمة شهريا لتنظيف الشوارع وجمع القمامة لكنها اثبتت فشلا ذريعا فى التوصل لاى نتيجة. «تحقيقات الاهرام» حاولت ان تقتحم هذا العالم، ولم يكن اقناعهم بالتواصل مع الاعلام سهلا وهذا ما فوجئنا به، فهم تعرضوا لأذى شديد بسبب بعض الممارسات الاعلامية الخاطئة عليهم، تحدثنا معهم وعن معاناتهم وما يطلبونه كى تصبح مصر دولة من الدول التى لاتعانى مشكلة القمامة، وحتى يصبح شكل الزبال حضاريا لا ينفر منه اى شخص، وكان هذا التحقيق. ذهبنا الى منطقة منشية ناصر وهى احدى خمس مناطق يتم فيها فرز وتدوير القمامة وباقى المناطق هى »ارض اللواء والبراجيل وطرة وعزبة النخل«، وفى منشية ناصر التقينا بعيسى هابيل احد اهم التجار واقدمهم فى هذه المنطقة الذى ورث المهنة عن والده واجداده فيقول : منذ نعومة اظافرى وعندما تركت التعليم لأعمل مع والدى فى هذه المهنة وجدت ان الدولة لا تمد لنا يدها وتحاول ابعادنا بشتى الطرق عن مهنتنا، ففى الثمانينيات تعاقدت هيئة نظافة وتجميل القاهرة مع شركات فرنسية وايطالية لتقوم بتنظيف الشوارع وجمع القمامة من المنازل وطرقنا ابواب المسئولين كثيرا لاعطائنا فرصة لنثبت لهم اننا نستطيع ان نقوم بما تقوم به هذه الشركات واكثر ولكن دون جدوي، فهذه المهنة خباياها كثيرة ولا يستطيع شخص أن يقحم نفسه فيها وينجح الا أولادها، وهو ما كان واضحا وخاصة بعد الثورة. ويستطرد بعد الثورة انشئت اول شركة وطنية لتدوير الزبالة، وهى شركة مسجلة معتمدة من هيئة الاستثمار وكانت »جمعية روح الشباب« من قامت بتوجيهنا ومساعدتنا ومازالت، وهى جمعية خيرية تؤمن تماما باهمية الزبال فى المجتمع وتعمل دائما على الارتقاء بمجتمع الزبالين وتقديم العون لهم، كما تقدم خدمات علاجية مجانية من خلال فحص دورى لاننا معرضون دائما للامراض. حال أولادنا وقال هابيل: هدفنا خدمة بلدنا والارتقاء بها بجانب المحافظة على قوتنا وقوت ابنائنا فمن هذه المهنة تربينا وربينا اولادنا وعلى الرغم ان ابناءنا يعملون معنا فإننا نصر على تعليمهم تعليما عاليا فلدى اربعة ابناء كلهم تخرجوا فى كليات مرموقة ومع ذلك بعد تخرجهم عملوا معى وهذا حال اولادنا جميعا. ويضيف: مهنتنا هذه يراها البعض مربحة للغاية ونأكل منها الشهد فلا انكر اننا نكسب منها ولكن مقابل هذا المكسب كلنا نعمل بايدينا فمثلا ابناء الاسرة الواحدة من يقومون بفرز الزبالة بفصلها الى كرتون او علب او صفائح وهكذا وهذه مهمة السيدات فى الغالب ويأتى دورنا نحن كرجال فنقوم بتجميع هذه المخلفات السابق فرزها وارسال كل شيء الى المختص فيه، فمثلا انا اعمل بزجاجات المياه المعدنية وصفائح المياه الغازية، وآخر يعمل بالكرتون والورق وثالث يعمل بالمعلبات البلاستيكية كالزبادى وغيرها وهكذا. ويلتقط الحديث منه احد تجار الكرتون ويمتلك شركة لكبسها وارسالها الى المصانع لاعادة تدويرها ويقول: ردا على من يريدون القفز على مهنتنا لينالوا نصيبا من المكسب اقول لهم: تعال اعمل بيدك مثل ما اعمل انا واسرتى . ويؤكد ان يومية العامل الذى يقف على ماكينة المكبس التى تكبس الورق 100 جنيه بواقع 6 عمال وعندما تتعطل الماكينة اعمل بيدى وعندما تنقص العمالة اعمل بيدى فلا نتعالى على الشغل ونعرف كيف نستفيد من أصغر الاشياء فى الزبالة وما يمكن الاستفادة من كل شيء فى اعادة التدوير اما من يحلمون بالقفز على عالمنا فمصيرهم الفشل دائما لانهم يستعينون بعمالة ضخمة بمبالغ طائلة حتى يقوموا بجميع المراحل التى نقوم بها، وبالتالى يجدون انفسهم امام خسارة كبيرة . ويضيف : قامت الحكومة بالتعاقد مع شركات اجنبية مقابل مبالغ شهرية هائلة لتنظيف الشوارع وبالطبع قاموا بالاستعانة بعمال مقابل مبالغ مالية زهيدة فقام العمال بالتعاون معنا من الباطن، فيقومون بجلب ما نحتاجه من مخلفات من صناديق القمامة الموجودة بالشارع ويتركون الباقي، وهذا نتيجة اهمال هذه الفئة. واضاف: هذه الشركات عندما فشلت فى نظافة الشارع حاولوا عقد اتفاق معنا للتعاون معهم من الباطن وكان الاتفاق باعطائنا على الشقة جنيها واحدا لنظافة حى باكمله يتم الاتفاق عليه مسبقا ولكننا رفضنا لقلة المبلغ خاصة ان علينا التزامات كثيرة كما ذكرنا مسبقا. واكد هو وزملاؤه: نستطيع ان نجعل مصر قطعة من اوروبا لكن بدون مساندة الحكومة لنا لا نستطيع وسيبقى الحال على ما هو عليه. ويقول احد تجار منطقة منشية ناصر نواجه صعوبات كثيرة فى مهنتنا هذه من مشكلات مع المرور فيتم تغريمنا :بسبب الحمولة الزائدة تبدأ بخمسين جنيها ومن الممكن ان ندفع أكثر من مرة فى اليوم إن مرت السيارة باكثر من لجنة وكذلك بالنسبة لهذه المنطقة -منشية ناصر -قاموا باغلاق طريق الاوتوستراد والطريق الدائرى وهما السبيلان الوحيدان لوصولنا الى المنطقة او الخروج منها: متسائلا باستنكار اين نسير؟! وبالطبع نقوم بدفع غرامات نتيجة سيرنا فى الطرق الممنوع. واضاف: ومن المشكلات الاخرى مع المحافظة أنها لا تريد الاعتراف بنا وتريد ان تنقلنا من اماكننا بدافع انها مناطق سكنية على الرغم انه لا توجد شكاوى لان كل من يقطنون بهذه المنطقة يعملون بهذه المهنة سواء تجارا أو عمالا من مصلحتهم البقاء بجوار اعمالهم وايضا من ضمن ما نتعرض له من مشكلات وهى معاندة بعض رجال الاعمال لنا باستغلال نفوذهم ضدنا وذلك بسبب معارضتنا لدخولهم فى عالمنا والمساس بتجارتنا فنحن نأبى ان يشاركنا شخص ليس منا فى لقمة عيشنا. وعاود عيسى هابيل الحديث قائلا: الدولة فرضت على فاتورة الكهرباء رسوما للنظافة لكل شقة تبدأ ب 3 جنيهات فى المناطق العشوائية الى 10 جنيهات فى المناطق الراقية وايضا نجد ان الصناديق ممتلئة والشوارع غير نظيفة فيقول نحن على اتم استعداد ان نحصل من كل شقة 10 جنيهات، ونأخذ الزبالة من المنازل وننظف الشارع ونفرغ صناديق القمامة باستمرار وفوق كل ذلك سنرتقى بالزبال بارتدائه زيا موحدا ليصبح شكله حضاريا ولا احد ينفر منه فما المطلوب منا اكثر من ذلك ؟؟ لكن نريد ان تتكاتف الدولة معنا. عطية ابو الرشد احد تجار المنطقة ويعمل فى فوارغ زجاجات المياه والعلب فيقوم بتكسيرها بالكسارة- ثم تغسل جيدا وبيعها لمصانع لعب الاطفال والاحذية وغيرها، يقول انا حاصل على مؤهل عال وكنت اعمل فى جهة حكومية واتجهت لهذا العمل فانا ابن المنطقة ووجدت ان هذا العمل افضل من اى مكان آخر فانا هنا حر نفسى والكثيرون يريدون خوض تجربة العمل بمهنة اعادة التدوير ولكنهم يواجهون فشلا كبيرا فأهم شيء لصاحب هذه المهنة انه يعتبر نفسه مثله مثل احد العمال الذين يعملون معه ويتقاضون اجرة يومية تصل الى 100 جنيه فانا كصاحب عمل اخصص ملابس ارتديها يوميا للعمل مع العمال ولكن الآخرين يريدون ان يجلسوا بمكاتبهم الفخمة ويديرو الدفة وهذا لا يصلح مع هذه المهنة فحتى احقق مكاسبى لابد ان اعمل بيدي. ويضيف: ما اطلبه بالاضافة الى طلبات زملائى هو ضرورة تكاتف الدولة بأن تساعدنا على نقل الماكينات الضارة بالصحة وبالبيئة، فبعض الماكينات مثل الخرازة والتى تقوم بتخريز الاشياء الى خرز صغير جدا يدخل فى صناعة البلاستيك والاكياس وغيرها تنتج عنها ادخنة كثيرة ورائحة كريهة وهذه تؤثر على صحتنا وحاولنا كثيرا مع وزارة البيئة ان تخصص لنا قطعة ارض فى احد المجتمعات العمرانية الجديدة نقيم عليها مصانع لإعادة التدوير والتى تستعين بالماكينات الضارة ولكن دون جدوى وما يهم المحافظة فقط ان ينقل الحى بنشاطه الى مكان آخر وهذا ما يزعجنا فكل التجار والعمال هنا من قاطنى المكان ويأبون نقلهم بعيدا عن مسكنهم. وفى النهاية اجتمع التجار على كلمة واحدة انهم سيدافعون عن رزقهم وانهم يمدون اياديهم الى الدولة لانهم يحلمون ان تكون مصر من انظف الدول وهم وحدهم يستطيعون ذلك.. فهل من مستجيب؟