المعطيات المتوافرة، فى سياق تقدير خطر الإرهاب العالمى، تؤكد أن التنظيمات لا تزال هى المسيطرة على النشاط الإرهابى، وخصوصا فى منطقة الشرق الأوسط. وأن النشاط الإرهابى ل «الذئاب المنفردة» لايزال هامشيا حتى الآن. ويكفى الاستشهاد هنا بمعطيات مؤشر الإرهاب الدولى لعام 2015. وكذلك بأرقام العمليات الانتحارية التى وقعت خلال العام الماضى أيضا. حيث تشير معطيات المؤشر إلى أن التنظيمات الإرهابية قامت بما لا يقل عن 99.7% من العمليات، بينما الهامش المتروك لعمليات الذئاب المنفردة لا يتجاوز نسبة ٫3% من العمليات فقط. بل إن كلا من «بوكو حرام» و«داعش» (وبالأحرى داعش وولايتها فى غرب أفريقيا) مسئولتان عن نصف عدد الوفيات جراء الإرهاب فى العالم أجمع. حيث احتلت بوكو حرام المرتبة الأولى (6644 حالة وفاة) بينما احتلت داعش المرتبة الثانية (6073 حالة وفاة). وفى السياق ذاته، هناك خمس جماعات فقط هى المسئولة عن وفاة 74% من إجمالى عدد الوفيات الناجمة عن أعمال إرهابية بواسطة فواعل معلومة، وهى بالترتيب: بوكو حرام، وداعش، وطالبان، ومسلحو الفولاني، وأخيرا حركة الشباب الصومالية. وتتأكد تلك الحقيقة بالنظر فى الأرقام المتعلقة بالعمليات الانتحارية، حيث بلغ عددها خلال العام الماضى 452 عملية فى 22 بلدا (207 منها وقعت فى منطقة الشرق الأوسط). هذه الهجمات كلها نفذتها التنظيمات الكبرى، وليس «الذئاب المنفردة»، حيث برزت داعش على صعيد الإرهاب الانتحاري، وكانت مسئولة، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن 174 هجوما. أما شركاء داعش فى نيجيريا (بوكو حرام - ولاية غرب إفريقيا) وفى مصر (أنصار بيت المقدس - ولاية سيناء) فنفذتا 134 هجوما (122 هجوما لبوكو حرام - 12 هجوما لأنصار بيت المقدس). هذه المعطيات وغيرها تؤكد أن أى تقدير استراتيجى لخطر الإرهاب فى العالم، ينبغى أن يتأسس على متابعة تلك التنظيمات الكبرى، من حيث الاستراتيجيات والتكتيكات، ومسارات التمدد والانكماش، ونقاط الضعف والقوة ...إلخ، وهذه السطور تدخل ضمن هذا النوع من التحليل. أولا: القاعدة وفروعها أ- مركز القاعدة: يظل مركز تنظيم القاعدة بقيادة أيمن الظواهرى ضعيفا. فعلى امتداد العام الماضى لم ينفذ أى هجمات كبيرة، واستمر نفوذه الأيديولوجى فى التراجع. وما يلفت الإنتباه فى هذا السياق، أن بيانات قادة فروع القاعدة مثل زعيم القاعدة فى شبه الجزيرة العربية «قاسم الريمي»، وزعيم جبهة النصرة «أبو محمد الجولاني» باتت تحظى باهتمام أكبر من بيانات الظواهري. ولا شك أن الاستهزاء العلنى بزعامة القاعدة، من قبل زعامات «داعش» هو أيضا انعكاس لكيف تجرد مركز القاعدة من موقعه القيادى. لكن من ناحية أخرى، أدى ظهور «سيف العدل» وأربعة آخرين من كبار زعماء القاعدة (كانوا يعيشون فى إيران مع مجموعة أخرى من قواعد القاعدة فى أوضاع ضبابية) إلى تدعيم مركز القاعدة مرة أخرى. سيف العدل، هو القائد العسكرى الحالى للقاعدة. وبسبب خلفيته وخبرته، يعتبر مستودعا مهما لأسرار الشبكة الإرهابية العابرة للحدود. ومع ما ذُكِر حول ظهور معسكرات جديدة للقاعدة فى أفغانستان، ربما يكون «سيف العدل» وقادة آخرون يحاولون تمرير مهاراتهم إلى جيل جديد من العناصر التنفيذية. إذا ما نجحوا، وتخففت القاعدة المركزية من الضغط الحالى عليها، قد تظهر مرة أخرى كفاعل إرهابى كبير عابر للحدود. هلال القاعدة ب - القاعدة فى شبه الجزيرة العربية: مقتل «ناصر الوحيشي» بقذيفة أمريكية فى مدينة المكلا باليمن فى يونيو 2015، لم يكن الخسارة الوحيدة لهذا الفرع هذا العام. فقد فقدت القاعدة هناك أيضا عضو مجلس الشورى حارث بن غازى فى يناير 2015، كما قُتِل مفتى الجماعة إبراهيم الربيش فى أبريل من ذات العام، إلى جوار المتحدث باسم الجماعة ناصر بن على الآنسي. لكن لا تزال الجماعة تتكئ على قيادات عسكرية ذات خبرة طويلة وعميقة، وقد تعززت صفوف قيادتها إلى حد كبير بعد كسر السجون أثناء «عاصفة الحزم» التى استمرت فى اليمن منذ مارس 2015. فقد تولى آخر الأعضاء المؤسسين للجماعة «قاسم الريمي» الزعامة. كذلك تعزز الهيكل القيادى للجماعة بوجود شخصيات مثل صانع القنابل إبراهيم العسيرى وخالد البطريفي، الذى أطلق سراحه بعد استيلاء القاعدة على مدينة المكلا اليمنية. فى الحاصل الأخير، تجاوزت الجماعة تحديات عديدة، منها ظهور ولاية لداعش باليمن، كما ساعدتها الحرب الأهلية على تحقيق مكاسب كبيرة فى العام 2015، ولاتزال مستمرة. لهذا لاتزال القاعدة فى شبه الجزيرة العربية قوية كما كانت. موضع جديد ج - جبهة النصرة: ثانى أكبر فرع للقاعدة هو «جبهة النصرة» فى سوريا. بعد سحقها ل «حركة حزم» المعتدلة المدعومة من الغرب، اتجهت جبهة النصرة نحو عقد تحالف مع الجماعات الإسلامية التى استولت على مدينة إدلب. فى الواقع، على الرغم من دورها الرئيسى فى العملية، لم تفرض الجبهة رؤيتها للشريعة؛ بالأحرى حكمت المدينة مع حلفائها. وتتفق هذه السياسة مع توجهات القاعدة وجهودها كى تصور نفسها كبديل «معتدل» لداعش. وفى نوفمبر 2015 سجلت «النصرة» هدفا دعائيا وسياسيا كبيرا، عندما أنجزت مع الحكومة اللبنانية (بوساطة قطرية) صفقة لتبادل المعتقلين. صحيح أن لبنان استرجع جنوده المختطفين بعد أكثر من عام ونصف العام لكن «جبهة النصرة» أيضا حصلت على ما كانت تنتظره: تحسين الصورة، وقافلة من المعتقلين فى السجون اللبنانية والسورية، قوافل من المساعدات الطبية والغذائية، 25 مليون دولار من قطر، تسلمها «أبو مالك التلى» أمير القاعدة فى القلمون، فضلاً عن ممرٍ آمن بين جرود عرسال ووادى حميد، فيما يشبه الإقرار الرسمى اللبنانى ب“حقٍ” النصرة فى أن تبقى فى هذه المناطق لكن دون أن تتمدد. الصفقة تم تغليفها بأبعاد إنسانية، لكنها من حيث التوقيت والجوهر تندرج ضمن محاولات إقليمية (قطرية – تركية) بالأساس، كانت تستهدف تأهيل جبهة النصرة، وانتزاع موافقة إقليمية ودولية على تموضعها فى خندق المعارضات المسلحة المعتدلة. خسائر إضافية د- فروع وحلفاء آخرون للقاعدة: انقسمت القاعدة فى المغرب الإسلامى عام 2013، وعانت من خسائر إضافية فى 2014 عندما انشق بعض أعضائها وانضموا لداعش. ولكن مع عودة «مختار بلمختار» وقواته، خرجت الجماعة من عام 2015 أقوى مما كانت قبله. أيضا، رغم الزخم الكبير الذى حظيت به داعش، ظلت حركة الشباب الصومالية ضمن معسكر القاعدة. بل إن زعماء الحركة مضوا إلى ما هو أبعد من ذلك بإعدام عدد ممن انشقوا عنها لصالح داعش. والملاحظ فى هذا السياق، أن الصومالوسوريا ليستا ساحتى القتال الوحيدة التى تقاتل فيها فروع القاعدة ضد فروع داعش... فى ليبيا، ظهر أن أنصار الشريعة الموالية للقاعدة وشركائها هم الأكثر فعالية ربما فى مكافحة داعش، حيث استطاعت تلك الجماعات إخراج داعش من مدينة درنة فى يوليو 2015. أيضا حلفاء القاعدة فى طالبان يقاتلون حاليا منشقين عن طالبان سبق وأعلنوا بيعتهم لداعش. باختصار، إذا كان البقاء هو الهدف الرئيسى لأية تنظيم استراتيجيته الحرب طويلة المدى (مثل القاعدة)، فقد استطاعت القاعدة تحقيق هذا الهدف رغم عظم التحديات وضخامة العقبات. ولكن خلافا للبقاء وحده، إذا ما استمر الضغط على «مركز القاعدة» وتخفف الضغط على فروعها، قد تستعيد الجماعة عافيتها وتعود مرة أخرى إلى مستوى ما قبل 11 سبتمبر. فضلا عن أن حاجة القاعدة إلى إعادة لتأكيد زعامتها للجهاد العالمى ربما يشجعها على محاولة تنفيذ هجوم على هدف غربي. ثانيا: داعش وولاياتها على العكس من القاعدة، يبدو أن عامل الوقت، وكذلك الديناميكيات الإقليمية والدولية، يعملان ضد داعش. وخلال عام 2016 لن يكون أمامها سوى محاولة التكيف مع تحديات ربما غير مسبوقة (منذ أن تحولت من مجرد تنظيم إلى دولة) وخيارات محدودة للغاية. وكلما ظلت «داعش» فى خانة الدفاع وغير قادرة على الاستمرار فيما وعدت به من ضم المزيد من الأراضي، فقدت جاذبيتها أيديولوجيا وتراجعت. أ- داعش فى العراقوسوريا: منذ نوفمبر 2015 (أى بعد هجمات باريس) تكثفت الجهود العسكرية ضد داعش بشكل متزايد مع تراكم المعلومات الاستخباراتية حولها، وفى ظل تنسيق أكبر بين خصومها. وهذا فى الحاصل الأخير أوقف تمددها داخل المناطق ذات الأغلبية السنية، فضلا عن أنه أصبح فى حكم المستحيل الانتشار خلف تلك المناطق إلى حيث المناطق الشيعية أو الكردية. وفى عام 2016، ستستمر الضربات الجوية من جانب التحالف الدولى، وستصبح أشد فعالية، ولهذا سيقتل زعماء داعش بوتيرة متزايدة. أما أولئك الذين سينجون فسيكون عليهم قضاء وقت أطول وبذل مجهود أكبر على صعيد الأمن الشخصي، وهذا سيخصم من الجهد المبذول على صعيد القيادة والسيطرة. كذلك ستستمر وحدات الحماية الشعبية الكردية فى سوريا، والبشمركة فى العراق فى الاقتراب من أراضى داعش وقطع خطوط إمدادها حيث تعمل البشمركة العراقية - فى هذه الآونة - على قطع الطريق على داعش نحو تركيا، بينما الولاياتالمتحدة (مستخدمة القوة الجوية وقوات العمليات الخاصة) تغلق طرق المناورة بين العراقوسوريا. وهذا يعنى أن نجاحات داعش فى ساحات المعارك ستصبح شحيحة وستتقلص الأراضى الخاضعة لسيطرتها بمرور الوقت. وفى عام 2016 ستواجه داعش تحديات فى العديد من ساحات المعارك المهمة. الأولى فى الموصل، المكان الذى أعلن فيه أبوبكر البغدادى الخلافة. وفى هذا السياق (وقياسا على العمليات فى الرمادى وبيجى وتكريت) ستكون عملية الاستيلاء على الموصل بطيئة، لكنها ستكون حاسمة ومدعومة بقوة بضربات التحالف الجوية. حصار داعش كذلك وضع داعش فى منطقة شمال حلب، أصبح هشا، والجماعة باتت مضغوطة من ثلاثة اتجاهات، الأول: من تحالف قوى المعارضة السورية فى القسم الشمالى الغربى لسوريا. الثاني: قوات الأسد التى تضغط عليها من الجنوب الغربي. الثالث: قوات سوريا الديمقراطية (باتت على مسافة 30 كم فقط من الرقة عاصمة داعش). وإذا تمت هزيمة داعش فى الرقة، فسيكون لتلك الهزيمة تداعيات رمزية ودعائية كبرى.. فالمدينة كانت عاصمة الخلافة العباسية من 796 ميلادية إلى 809 ميلادية، قبل أن تنتقل العاصمة إلى بغداد. ب - داعش خارج العراقوسوريا: خلافا لولاية برقة شرق ليبيا، وولاية خراسان فى أفغانستان، أصبحت الجماعات الموالية لداعش مع نهاية 2015 أضعف مما كانت عليه فى مطلع العام. على سبيل المثال، أكثر من 100 عضو فى ولاية اليمن، ومنها القائد العسكرى للجماعة والعديد من عناصرها الرئيسية، انشقوا عن الجماعة فى ديسمبر 2015. كذلك ألحق الجيش المصرى خسائر فادحة بتنظيم بيت المقدس الإرهابى. ج- نقل الهجمات إلى الخارج: فى مواجهة كل هذه التحديات، ستلجأ قيادة داعش، لاعتبارات البروباجاندا والحفاظ على المكانة داخل سوق الإرهاب، إلى الاعتماد أكثر على الاستراتيجية التى تبنتها فى النصف الثانى من عام 2015. أى شن هجمات فى الخارج. بمعنى أن زيادة التحديات ستحفز على زيادة الهجمات ضد مدى واسع من الأهداف القريبة والبعيدة. ولهذا رغم كل النجاح المحسوس ضد داعش، ورغم تراجع طموحاتها بتوسيع نطاق ما يسمى بالخلافة فى الشرق الأوسط، سيستمر الذعر بشأن التنظيم عبر أنحاء العالم، خلال العام 2016.