جون ريث هو أول رئيس لهيئة الاذاعة البريطانية, وصاحب فلسفة ان تكون هيئة عامة تثري الحياة الثقافية والفكرية للامة البريطانية, هكذا ارادها وهكذا اصبحت ولاتزال, سنويا اعتادت هيئة الاذاعة البريطانية ومنذ عام1948 وحتي الآن الاحتفال بذكراه بسلسلة من المحاضرات يدعي إليها كبار المفكرين والفلاسفة لمناقشة قضايا الانسان المعاصرة. واصبحت تعرف بمحاضرات جون ريث, وغدت تمثل حدثا ثقافيا وفكريا سنويا تحتفي به وسائل الاعلام في العالم, بدأت تلك المحاضرات بالفيلسوف البريطاني برتراند راسل متحدثا عن السلطة والفرد, وجاء من بعده كثيرون. وخلال ستين عاما مضت اصبحت محاضرات ريث احد اعظم السجلات الفكرية والثقافية الرائعة في العالم. هذا العام استضافت محاضرات جون ريث فيلسوفا سياسيا امريكيا مرموقا هو مايكل ساندل احد أكثر اساتذة جامعة هارفاد شعبية, وهو متخصص في علم الحكومات, وقد حقق كتابه الأخير عن العدالة شهرة كبيرة, وفلسفته الاساسية تقوم علي ان الفراغ الناتج عن السياسات المعاصرة يمكن اصلاحه فقط بالعودة إلي الفضيلة والاخلاق اربع محاضرات ألقاها ساندل هذا العام تستحق كل منها حديثا منفصلا, وعدني الصديقان اسامة سرايا والدكتور حسن أبوطالب ان يديرا حوارا حول ما طرحه ساندل في محاضراته التي تعني بمصير الانسان المعاصر اينما كان. من بين محاضراته الاربع اختار لهذه المقالة محاضرته عن انتهاء عصر الانتصار الرأسمالي, مطالبا بوضع حد لتأثير قيم السوق في صياغة اخلاق المجتمع وقيمه, حيث اصبح كل شيء قابلا للبيع دون ادني اعتبار للقيمة الاجتماعية والانسانية لتلك الاشياء, تحدث الفيلسوف الأمريكي عن الحدود الاخلاقية للاسواق في ظل الفشل الرأسمالي الذي قاد العالم نحو اسوأ ازمة اقتصادية منذ ازمة الكساد العالمي عام1929, فعصر انتصار الرأسمالية اخضع المجتمعات لمنطق الاسواق تصوغ قيمها كيف شاءت, انساق العالم نحو مصالح الافراد بدلا من الصالح العام. الفكرة الاساسية عند ساندل هي ان بعض الاشياء الجميلة في الحياة تفسد وتتدهور ان هي تحولت إلي سلعة تباع وتشتري, وحينما نقرر استخدام منطق السوق معها فلن يكون كافيا ان نتحدث عن الكفاية ولكن يتعين علينا ان نقرر القيمة الحقيقية لهذه السلع مثل الصحة والتعليم والدفاع الوطني والعدالة الجنائية وحماية البيئة, فهذه قضايا اخلاقية وسياسية وليست مجرد قضايا اقتصادية, وحتي نتخذ قرارا ديمقراطيا بشأنها علينا ان نناقش في كل حالة المعاني الاخلاقية لكل واحدة من تلك السلع عبر نظام دقيق لتقدير قيمتها, مثل هذه المناقشات لم تلق منا الاهتمام في عصر انتصار السوق, والنتيجة أنه بدون ادراك حقيقي لهذه المشكلة وبدون محاولة ادراك ذلك علي نحو صحيح, فإننا ننجرف سريعا من خضوع الاقتصاد لآليات السوق إلي حالة أسوأ كثيرا حين تخضع المجتمعات بأسرها لنفس تلك الآليات, لقد عايشنا اقتصادا تصنعه الاسواق, ونحن الآن اقرب إلي مجتمعات تصوغ قيمها الاسواق, والأمل عند ساندل يكمن في الاحياء المدني والاخلاقي علي ان نبدأ الحوار حول ذلك الآن. يري ساندا اننا نعيش مرحلة جديدة يتداخل فيها الفشل الرأسمالي بالأمل في بعث جديد للقيم الروحية والفضيلة وان اختيار باراك أوباما كان تعبيرا عن هذا الأمل, الأمل في سياسات جديدة اقل ارتكازا علي المصالح الفردية وأكثر اعتبارا واهتماما بالصالح العام, وسياسات الصالح العام لاتعني البحث عن سياسيين أكثر قدرة علي الشك والتدقيق وانما سياسات تعني أكثر بفكرة المواطنة وما تعنيه لابناء المجتمع الواحد, وفي هذا الخطاب السياسي نحتاج في المقام الأول إلي معالجة دور الاسواق وحدودها الاخلاقية والروحية, اننا نعايش تداعيات الازمة الاقتصادية ونكافح من اجل ان نفهمها, ولعل احدي وسائل فهم ما جري ان ندرك حقيقة اننا في نهاية مرحلة انتصار الرأسمالية, فالعقود الثلاثة الماضية كانت زمن التهور والافتتان بالاسواق وتحريرها من كل قيد. ظهرت اصولية السوق الحرة علي يد ريجان وثاتشر ثم عشنا زمن الليبرالية الجديدة المتعاطفة مع الاسواق عند كلينتون وتوني بلير التي خففت من اصولية من سبقوهما, ولكنها أيدت فكرة ان الاسواق هي آلية عمل اساسية واولية لتحقيق الصالح العام, واليوم.. تبدو تلك الفكرة مثيرة للشكوك, هناك شعور عام بأن الاسواق انفصلت عن القيم الاساسية اللازمة لكل مجتمع, ونحن بحاجة إلي ان نحقق تواصلا وترابطا بين الاسواق والقيم, ولكن السؤال كيف؟ الأمر يتوقف علي ما تعتقد انه كان سلوكا خاطئا, البعض يقول ان المشكلة تكمن في الجشع الذي ادي إلي مخاطر غير مسئولة, واذا كان ذلك صحيحا فإن التحدي الذي نواجهه هو كبح جماح الجشع وان نربط قيم المسئولية والثقة والأمانة والمعاملات النزيهة بالفضائل الشخصية كعلاج لقيم السوق المنفلته المصابة بالسعار. اننا يمكن ان نسمي ذلك التشخيص بنقد الجشع, ولكنه تشخيص جزئي ومعيوب, فالأسواق دائما ما تعمل وفق المصالح الذاتية, ومن وجهة نظر علم الاقتصاد, فإنه ليست هناك فروق حقيقية بين الجشع وبين المصالح الذاتية, فالجشع نقيصة ورذيلة في العلاقات الشخصية ولكنه بمنطق الاسواق يتحول إلي اداة لتحقيق الصالح العام, هذا المنطق مغلوط وفاسد يشبه كيمياء تحويل المعادن إلي ذهب التي سادت في قرون خلت, لقد تعلمنا من آدم سميث اننا لانحصل علي طعام العشاء صدقة من الجزار أو الخباز ولكن من اهتمامهم بمصالحهم الذاتية, اننا لاندين لإنسانيتهم بالامتنان ولكننا نقدر حبهم لانفسهم ومصالحهم, فليس هناك شخص يعتمد علي صدقات مواطنيه سوي المتسول الشحاذ, هكذا قال آدم سميث وفكرته تغري بأن تجعلنا نعتقد ان كل ما مانحتاجه هو ان نكبح جموح الجشع, وان نستعيد الأمانة والاستقامة بين رجال البنوك ورجال الأعمال والمديرين والسياسيين وألا نعيد التفكير في الدور الذي تقوم به الاسواق في مجتمعاتنا, ويطرح ساندل سؤاله ما البديل اذن؟ والبديل عنده هو ان نعيد التفكير في تدخل الاسواق في مجالات من الحياة لاتنتمي لها ولاترتبط بها, نحتاج نقاشا عاما حول ماذا يعني ان نبقي الاسواق مكانها وفي حدودها, وحتي يمكن لهذا النقاش ان يتم لابد من التفكير في الحدود الاخلاقية للاسواق, علينا ان نعترف بان هناك اشياء لايمكن للأموال ان تشتريها, وان هناك اشياء يمكن للاموال ان تشتريها ولاينبغي لها ان تفعل ذلك. خلال عقود ثلاثة ماضية انتصرت فيها الرأسمالية, لم تكن أكثر التغييرات شؤما تكمن في زيادة حوادث الجشع, وانما في توسع الاسواق وقيمها وتغلغلها في مجالات من الحياة كانت تخضع من قبل لمعايير وقيم اجتماعية واخلاقية لاعلاقة لها بالاسواق, وعلي سبيل المثال شهدنا انتشارا هائلا لمدارس ومستشفيات وسجون تدار بدوافع الربح بل ان الشركات الخاصة دخلت إلي ميادين القتال, وتزايدت شركات الأمن الخاصة, خاصة في الولاياتالمتحدة وبريطانيا, انظر إلي اعلانات الادوية في التليفزيون الأمريكي في ساعات المساء فسوف تسامح كل من يعتقد ان اخطر الازمات الصحية في العالم ليست الملاريا أو الايدز أو العمي النهري, أو مرض النوم وانما هي وباء عجز الرجال عن القيام بمهام الرجولة, فذلك هو منطق الرأسمالية المعاصرة.. ونتابع صرخة ساندل المقالة القادمة.