لأن هيبانا وتاناكان الراهبان البوذيان.. هما ضيوفي في القاهرة.. فقد تركت لهما حرية اختيار المكان الذي يريدان أن يسهرا فيه أول ليلة لهما.. فاختارا أن يحتميا من العاصفة الترابية التي تخنق القاهرة هذه الأيام.. بأن يسهرا في حي الحسين العريق والجلوس علي مقهي الفيشاوي الشرقي الأصيل.. لأنه علي حد قولهما يذكرهما بليالي ألف ليلة وليلة التي قرءا عنها كثيرا في كتب الاقدمين بكل لغات الأرض.. وبمقاهي بومباي في الهند.. والتي زارها السندباد البحري وهو علي حد قولهما مصري أصيل طاف بمركبه بحار العالم وشاهد ما لم يشاهده إنسان من قبل ولا من بعد.. حتي أنه وصف في احدي رحلاته «طائر الرخ» وهو آخر سلالة من فصيلة الديناصورات التي تطير بجناحين وقد انقرض الآن.. ولم يعد له وجود إلا في كتب أصل الخليقة لعمنا داروين وفي فيلم لص بغداد.. أحد أفلام الزمن الجميل.. عندما تعلق السندباد بقدميه ليخرجه من وادي الذهب والماس السحيق إلي قمة الجبل لينجو بحياته مع حبات الماس والذهب.. هكذا كانت تحكي شهرزاد في ليالي ألف ليلة.. هذه الحكاية لم أقلها أنا.. بل قالتها هيباتا الراهبة البوذية! لا أعرف كيف عرف صديقنا المهندس سمير متري جيد خبير المحطات النووية بوجود هيباتا وتاناكان في ضيافتي.. ولكننا وجدنا معرفش ازاي قد سبقنا إلي مقهي الفيشاوي.. لنجده في انتظارنا بنفسه علي بابه.. بعد السلامات والتقديمات والمجاملات التي لابد منها.. جلسنا نلتمس الدفء مع أكواب الشاي الأحمر والأخضر وانفاس النرجيلة العجمي التي أصر عمنا تاناكان أن يجربها مرة أخرى كما جربها أول مرة علي مقاهي كلكتا وبومباي وكوالالامبور.. ترفع هيباتا إلي شفتيها كوبا من الماء وهي تقول: لكم كنت أتمني أن اشرب كوبا من ماء نهر النيل.. وليس كوبا من مياه يقولون انها معدنية والإله بوذا الأعلم بحالها! يخرج عمنا سمير متري من حقيبة سوداء يحملها زجاجة ماء مباركة.. قال انها مأخوذة من مقياس المنيل في الروضة انها لك تذذوقي ماء نيلنا العذب! قالت: لقد قرأت في كتب الأقدمين أن نهر النيل ينبع من الجنة! قلت لجمعنا السعيد: ولكن يبدو أن سيدنا رضوان حارس الجنة.. قد تركها في هذا الزمان الصعب في ايدي حارس حبشي أسود البشرة غير معلوم النوايا.. أقام داره وموطن قبيلته عند منبع نهر النيل الذي اسمه النيل الأزرق.. ثم ها هو يبني سدا يسد عين الشمس اطلقوا عليه اسم «سد النهضة» وهو للحق سد العطش والجوع.. لأنه سوف يمنع تدفق المياه في نيلنا العظيم.. ولا يترك لنا إلا العطش! تقاطعني هيباتا بقولها: يعني عبارة هروددت: مصر هبة النيل.. سوف تتبخر في الهواء.. عند حجب ماء النيل عن مصر! العزيز سمير متري يتدخل: ليس حجب كل الماء.. ولكن بعضا منه! تسأل هيباتا: قد ايه يعني؟ قلت: سوف تخسر مصر علي الأقل 12 مليار متر مكعب من الماء وسوف لا تجد نحو 250 ألف فدان ماء للري.. كما يقول الخبراء! قالت: يا خبر وماذا أنتم فاعلون؟ قلت: الرسمي المفاوضات جارية.. ولكن السد مازالت قامته ترتفع يوما بعد يوم لأن الحارس الأثيوبي الأسمر مازال مصرا علي اكماله مهما كان الأمر وحتي النهاية.. وهو يزعم أن السد لن ينقص من حصة مصر السنوية من ماء النهر وهي في حدود 52 مليار متر مكعب سنويا كوب ماء واحد! يتدخل عمنا سمير متري بقوله: ولكنني أعرف أن الرئيس السادات قال يوما عندما سمع بنية أثيوبيا بناء سد علي النيل الأزرق.. بأنه سوف يهدمه لنموت نحن كلنا هناك.. بدلا من الموت هنا.. قلت: وأنا شخصيا سمعت بأذني كما قلت هنا من قبل اكثر من مرة.. الرئيس الأسبق حسني مبارك يقول: قل لهم في أثيوبيا سوف نهدم هذا السد إذا فكروا في بنائه بالطائرات! يسألني كانا كانا: ولكنك تبدو أمامنا هادئا مطمئنا! قلت: هذا صحيح.. لأن الرئيس عبدالفتاح السيسي قال جملة واحدة: لن اضيعكم أبدا؟ وأنا اصدقه.. .......... .......... يتدخل عمنا سمير متري جيد في الحوار بقوله: تثير أزمة سد النهضة الكثير من الأوجاع عند المصريين حاليا خاصة لأن مصر هبة النيل، وفي بطون التاريخ هناك العديد من القصص التي كان للكنيسة القبطية دور كبير فيها حيث كانت الكنيسة تتدخل دائما لتكون حمامة السلام بين مصر والحبشة أثيوبيا حاليا لأن الكنيستيين كانتا كنيسة واحدة، الأمر الذي تغيير الآن حيث انفصلت الكنيسة الأثيوبية وأصبحت كنيسة مستقلة عن الكنيسة القبطية ومن القصص التي يسجلها التاريخ اذكر هاتين القصتين .. القصة الأولي: وقعت أحداثها في عام (1100م) وفي عهد «المستعلي بالله» ووزيره الأفضل حيث ساد الهدوء في مصر هذه الفترة ولكن بعدها حدث نقصان في مياه الفيضان إلي حد ازعج المصريين فاتفق الخليفة «المستعلي» علي ارسال البابا مخائيل الأول البطريرك الثامن والستين في سلسلة بطاركة الكرازة المرقسية إلي بلاد الحبشة (أثيوبيا) ليقابل ملكها ويتفاوض معه في ما يتخذه من وسائل لتعلو مياه النيل. وسافر البابا إلي الحبشة حيث أكرموه هناك وطلب من الامبراطور تنظيف مجري النيل حتي يرتفع منسوب النيل، وقد بقي عدة أسابيع بالحبشة نجح خلالها في أن يقيم المودة بين ملك الحبشة والخليفة، وكان البابا ميخائيل أول من سافر من بطاركة الإسكندرية إلي الحبشة. أما القصة الثانية: فتقول وقائعها إن الأقباط في مصر عادة يحتفلون في 19 يونيو من كل عام بعيد رئيس الملائكة ميخائيل وهو أول الأيام التي تصلي فيها صلاة مياه النهر بالقداس حيث يقوم كهنة كنيسة مارجوس الروماني بالمريناب بأسوان، بإلقاء قربانة حمل وماء الأواني بعد القداس مباشرة كبركة لمياه النهر بركة لأجل مصر وكل شعبها . قلت: أذكر أن المؤرخ العظيم ابن المقفع قال: انه في عام 1834 يعني منذ 182 سنة كان ماء النيل شحيحا.. فخاف الناس من الجوع والعطش وسوء المصير! يكمل سمير متري الحكاية بقوله: فاستنادا لمحمد علي باشا الذي طلب من البابا بطرس الجاولي أن يتدخل بالصلوات والدعوات.. فاستدعي لفيفا من الأكليروس وجماعة الأساقفة وخرج بهم إلي شاطيء النهر واحتفل بتقديم سر الافخارستيا (سر التناول) وبعد اتمام الصلاة وضع الماء في أواني الخدمة وطرحها في النهر وطرح أيضا قربانة من البركة في مياهه فتلاطمت في الحال أمواجه واضطربت.. تنظر إلي هيباتا وتقول: اني اراك ساكنا هادئا ومحبس مياه النيل يتحكمون فيها هناك بعيدا فى أثيوبيا؟ قلت: انها ثلاث كلمات قالها الرئيس عبدالفتاح السيسي: لن أضيعكم أبدا.. ونحن نصدقه.. وأنا أكرر هذه الكلمات هنا للمرة الثانية! .......... .......... هيباتا الراهبة البوذية تتكلم: دعوني أذكركم بهذا العمل البطولي الذي قام به جندي من جنود مصر العظيمة اسمه أحمد ممدوح كما جاء علي النت الذي استطاع أن يحصد رؤوس خمسة عشر إرهابيا في سيناء قبل أن يسقط صريعا.. ومن قبله كان زميله الذي احتضن إرهابيا يلبس حزاما ناسفا كان يريد تفجيره وتفجير نفسه في نحو ثلاثين جنديا من زملاء هذا البطل الذي سارع باحتضان هذا الإرهابي ليموت الاثنان معا.. تحية خاصة منا نحن رهبان دير صال التبت وكل رعايا بوذا العظيم في كل الأرض! قلت: أنه البطل محمد شويقة وقد اطلقنا اسم هذا الشهيد علي عام 2015 بأكمله.. لكي يصبح عام البطل محمد شويقة. يتدخل عمنا سمير متري في الحوار بقوله: إذا اردتم الرأي الصواب.. فإن البطل الحقيقي هو الإنسان المصري نفسه الذي يكافح في كل الجهات في وقت واحد.. والذي يجاهد من أجل لقمة العيش وعيش أولاده.. وهو يحمل فوق ظهره هموم الدنيا كلها.. هيباتا.. الانثي التي لم تنس قبل مظهر الودع والتقوي.. انها امرأة رغم الرداء الكهنوتي الذي ترتديه ولا يفسر أية علامة أو ملامح من جسدها الممشوق كأنها قلم رصاص جاف.. وأن كان نبض الأنثي ومسحة سن دلالها وحلاوتها يريد أن يخرج إلي النور.. إلي الدنيا.. لولا خشية من لوم بوذا العظيم وغضباته التي تفسرها لنا هيباتا بأنها أشد قساوة من عذاب يوم الساعة.. يوم يقف الكل في حضرة بوذا العظيم! علي فكرة: في الديانة البوذية يؤمنون مثلنا بيوم الحساب وأن لكل إنسان كشف يوم حسابه.. وأن مجرد رحيله عن دنيانا محطة يهبط فيها إما إلي سابع أرض في دنيا الظلام والعقاب.. أو يصعد إلي سقف العالم حيث النجوم والكواكب تضيء ليله بالحب بالصفاء بالونس بالحب بالود.. بالأنوار.. بالشبع.. هي نفس كلمات هيباتا زهرة الخوخ البرية التي تبوح عطرها وصفاءها.. ونقاء سريرتها.. مع كل خطوة تخطوها.. انتهت الفكرة.. .......... .......... العيون من حولنا ومعها الأذان.. بدأت تحيطها من كل جانب بتتبع الخطوات واللمسات والكلمات.. يذكرني صديقي سمير متري جيد خبير المحطات النووية بان لمصر تاريخ طويل مع الحبشة عندما كانت كنيستها وقساوسها وبطاريكها ورهبانها يتبعون الكنيسة المصرية فى عهد جمال عبدالناصر الذي كان صديقا شخصيا للامبراطور هيلاسلاسي ملك الحبشة قبل الانقلاب الدموي الذي أطاح به! أكمل له كلامه بقولي: وكانت الكنيسة المصرية وباباوات مصر يتدخلون عندما تتأزم الأمور بين مصر والحبشة.. ولم يكن أحد يفكر أيامها وحتي آخر عهد عبدالناصر والسادات في تعكير صفو هذه العلاقات باقامة سد يغضب المصريين ويحول جنتهم إلي صحراء قاحلة بلا زرع وبلا ماء بعد أن طلعوا علينا بهذا المشروع الذى يلقه الغموض والريبة الذي اسمه «سد النهضة» والذي يقلق بال كل مصري علي لقمة عيشه وشربة مائه وسقايه زرعه وضرعه! يضحك عمنا كاناكان الراهب البوذي ليكشف عن أسنان لم تنقص واحدا ويقول: لقد قرأت في كتب ومخطوطات المقريزي ذلك المؤرخ المصري العظيم.. أن ابرهه ملك الحبشة اراد يوما أن يغزو بلاد العرب.. وأن يكسر شوكتهم بهدم رمز ديانتهم قبل الإسلام.. الا وهي الكعبة التي بناها كما قال المقريزي رسول الله إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل.. ينظر في وجهونا بعيون تتساءل هل ما يقوله حقا صدق وعدل؟ قلنا له: هذا صحيح.. أكمل ياتاناكان؟ تابع هو حكايته بقوله: الذي قرأته أن ابرهه هذا اقترب من تخوم الكعبة ثم نصب للسكن خيامه تمهيدا لاطلاق قافلة الفيلة التي يصحبها لتقوم هي بمهمة هدم الكعبة... ولكن الغريب حقا أن أهل مكة لم يدافعوا عن كعبتهم؟ أكملت له حكايته بقولي: بل أكثر من ذلك ذهب إليه أبوسفيان وهو من مشايخ العرب في الجاهلية وشكا لابرهه أن جنده قد صادروا نحو مائة من جماله وهو يريده أن يعيدها له؟ فسأله ابرهه: اتسأل عن بعيرك ولا تسأل عن الكعبة التي سأهدمها في الصباح؟ قال له أبوسفيان قولته الشهيرة: الجمال أنا صاحبها وربها أما الكعبة فلها رب يحميها! وقد كان ارسل الله طيرا ابابيل ترمي ضد ابرهه وقوافل فيلهم بحجارة من سجيل كما يقول الحق في كتابه العزيز.. واندحرت جيوش ابرهه.. وانقذ الله كعبته.. تصفق هيباتا لانتصار الحق في النهاية.. .......... .......... يقاطعني عمنا تاناكان بسؤال: أنا أعرف أنك عاصرت الرؤساء الثلاثة: جمال عبدالناصر + أنور السادات + حسني مبارك.. من قابلت منهم.. ومن لم تقابل؟ قلت: لقد قابلت فى حياتي الصحفية الثلاثة.. ولي مع كل واحد منهم حكاية.. تتدخل هيباتا في الحوار بقولها: أحكي لنا حكايتك مع عبدالناصر الذي احدث انقلابا سياسيا في القارة الافريقية كلها وقد رأيت له صورا مع نهرو زعيم الهند وتيتو زعيم يوغوسلافيا قبل أن تتمزق وسوكارتو رئيس أندونيسيا الاسق. قلت: لقد التقيت بجمال عبدالناصر في حياتي كلها مرتين.. المرة الأولي في عام 1953 بعد الثورة بعام واحد.. عندما كان عمري أربعة عشر عاما عندما كنت في ثانية ثانوي في مدرسة القناطر الخيرية.. وعلمنا من الراديو أن جمال عبدالناصر سوف يمر من أمام مدرستنا في طريقه إلي شبين الكوم.. وأعددنا له استقبالا رائعا مكونا من طابور طويل من التلاميذ تحمل علم مصر وجاءت عربة شيفورليه سوداء موديل 1951 كابورليه وعندما شاهد السائق الموكب التلاميذي توقف بناء علي اشارة من عبدالناصر الذي نزل من السيارة وسلم علينا جميعا.. وقد قدمت له ما كتبته عنه في مجلة المدرسة فابتسم وقال جملة لن أنساها: ياه أنا مااستحقش كل ده! ثم سلم علينا واحدا واحدا مع وعد منه بزيارتنا في مدرستنا.. ثم حيانا وركب سيارته وذهب. أما المرة الثانية فكانت في استراحة الملك فاروق التي كان يذهب إليها من الحين والحين يوم الجمعة.. ولكنها حكاية طويلة ليس هذا مكانها.. ............... ................. قبل أن نمضي.. مصر أيها السادة قد تغفوا أحيانا.. ولكنها لا تنام أبدا.. ومازلنا مع هيباتا وتاناكان.{ لمزيد من مقالات عزت السعدنى