إلي اليوم ما زالت بعض العائلات في مصر تتشدق بأنها من أصول تركية علي أساس أن ذلك دليل علي رقي الأصل وعلو المرتبة وأنهم ينتمون إلي طبقة أولاد الأكابر. ويعلل الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلي أمين عام منظمة المؤتر الإسلامي تلك الظاهرة بأن الأتراك كونوا بالفعل طبقة أرستقراطية راقية في مصر خلال عهد أسرة محمد علي وأن الانتماء إليها كان يعد مصدرا للمباهاة والمفاخرة خاصة وأنها كانت الطبقة الحاكمة حتي بدايات القرن العشرين. وقد أشرت في مقالي السابق إلي كتابين قرأتهما في الأسابيع الماضية عن العلاقة بين مصر والأتراك وجدت فيهما إجابات عن أسئلة كثيرة تجول في ذهن الكثيرين منا. الكتابان من تأليف الدكتور أكمل الدين أولهما بعنوان' الثقافة التركية في مصر' والثاني' الأتراك في مصر وأثرهم الثقافي' ونخرج منهما بأن العلاقة التاريخية بين مصر وتركيا أعمق كثيرا مما نتصور وأنها دامت لأكثر من ألف عام. ولعل من أهم الأسئلة التي تتبادر إلي الذهن عند الحديث عن الأتراك هو مدي صحة النظرة الشائعة التي مؤداها أن الدولة العثمانية كانت مجرد آلة عسكرية باطشة بلا ثقافة ولا حضارة وأن الحكام الأتراك كانوا قساة متسلطين وغلاظ القلوب وأن الاستعمار الغربي جاء ليخلصنا من نير حكم الحديد والنار الذي فرضه الأتراك علي العالم العربي لما يناهز أربعة قرون. ومن الواضح أن تلك الآراء المنتشرة في مصر والعالم العربي تثير غضب د. أكمل الدين واستياءه.. وهو يسعي في كتابيه إلي تفنيدها مؤكدا أن الانجليز والفرنسيين وجدوا في الأتراك منافسا لهم في العالم العربي خلال مرحلة الاستعمار فقاموا بصناعة صورة مشوهة عن الأتراك لتدمير مصداقيتهم وإثارة كراهية الشعب المصري ضدهم. ومن هذا المنطلق يسعي المؤلف في كتابيه إلي إبراز إيجابية التأثير الثقافي التركي في مصر والعكس. ويعد الكتاب الأول تأريخا أمينا للوجود التركي في مصر منذ عهد أحمد بن طولون(868-884) وهو أول حاكم تركي لمصر وأول من استقل بها عن الخلافة العباسية عندما بدأت تظهر عليها أعراض الضعف. وما لا يستوعبه الكثيرون هو أن حكام مصر منذ ذلك العصر كانوا دائما من الأتراك أو من المتحدثين باللغة التركية باستثناء حقبة الفاطميين التي دامت في مصر أكثر قليلا من مائتي عام(969-1171). ويقوم المؤلف في الجزء الأول من الكتاب باستعراض أسماء أهم العلماء الأتراك الذين عاشوا عندنا والمصريين الذين أقاموا في تركيا. ومن الواضح أن د. أكمل الدين مهتم كثيرا بالجانب اللغوي, حيث أن ما لا يقل عن نصف الكتاب مخصص للكلمات والألفاظ التي أدخلها الأتراك إلي مصر. وبصراحة فقد فوجئت بكم الكلمات التي نستخدمها في حياتنا اليومية ولا نعلم أنها من أصل تركي أو من جذور فارسية لكنها جاءت كلها عن طريق الأتراك. وكما يقول الكتاب فإن اللغة الفصحي لم تتأثر كثيرا بالتركية علي عكس المصرية العامية. فهناك كلمات مثل' أوضه' بمعني حجرة وأيضا: حوش وفوطة وفستان وشنطة وجزمة وبرواز وبويا بمعني دهان كلها من أصل تركي. وكلمة كراكون بمعني قسم بوليس وأدوات مثل: الشاكوش والأجنة والكرباج. وإذا قلت عن شخص إنه' ترللي' بمعني أن عقله' مهزوز' فاعلم أنك تتكلم اللغة التركية. وعندما نقول' طظ' للتعبير عن الاستهزاء فربما لا يدري الكثيرون أنها كلمة تركية معناها' ملح'. وسبب التسمية أن الجمارك علي الملح كانت محدودة للغاية مقارنة بغيرها من السلع فكان التجار يقولون باستخفاف' طظ' عندما يأتي تاجر الملح ببضاعته. ولتسمية' الحنفية' قصة ترتبط بالأتراك. فغالبية المصريين كانوا من الشافعية أو المالكية, أما الأتراك فكانوا من أتباع مذهب أبي حنيفة النعمان. وكان الأوائل يتوضأون بمياه يأخذونها بأيديهم من أحواض أو خزانات. أما الحنفية الأتراك فكانوا يرفضون ذلك ويصرون علي التوضؤ بالمياه الجارية. وعندما شاع استخدام الصنبور أطلق عليه المصريون اسم' حنفية' ربما كنوع من السخرية المصرية الشهيرة علي أؤلئك الأتراك الذين يرفضون التوضؤ مثلهم. وكنت أتساءل دائما عن أصل كلمة' تملي' بمعني دائما واكتشفت من الكتاب أنها كلمة تركية وكذلك كلمة بقشيش وكلمة بلطجي التي صارت متداولة في زمن ازدادت فيه البلطجة في مجتمعنا. أما الكتاب الثاني' الأتراك في مصر وتراثهم الثقافي' وعلي غلافه صورة لمحمد علي باشا فيتناول حقبة الأسرة العلوية التي حكمت مصر من1805 إلي1952 وهي حقبة كما يقول الكتاب كان فيها التأثير الثقافي التركي أقوي كثيرا من ذي قبل. ويصف د. أكمل الدين كتابه الثاني في المقدمة بأنه' هدف حياة ونتاج مصير' ويؤكد أن تأليفه قد استغرق أربعين سنة من حياته. ولا شك أن المؤلف قد استعان بمجموعة من الباحثين لأن الكتابين يحتويان علي معلومات وببليوغرافيا تحتاج إلي مؤسسة كاملة لتجميعها. ولا يترك الكتابان صغيرة ولا كبيرة إلا ويغوصان في دور الأتراك بها. فالعمارة والموسيقي والغناء والخط والطباعة والترجمة والصحافة والعسكرية والبنية الاجتماعية والتجمعات الحرفية قد تم تناولها باستفاضة وبتفصيلات لا أعتقد أنها مجمعة بهذه الصورة في أي كتاب آخر. ولأن الكتاب الأول يتكون من نحو500 صفحة في حين يصل الثاني إلي نحو450 فمن المستحيل تلخيصهما في هذه المساحة المحدودة. لكنه من الممكن النظر إليهما علي أنهما محاولة جادة ومخلصة لرد اعتبار الأتراك في الذهنية المصرية والعربية في وقت عادت فيه تركيا الحديثة إلي إحياء اهتمامها التقليدي بالعالم العربي بعد نحو قرن من التباعد وانفصام المصير. وكانت تصريحات رئيس الوزراء التركي أردوغان في قمة سرت الأخيرة بأن مصير تركيا مرتبط بالعالم العربي بمثابة تأكيد وتكريس للفكرة الجوهرية الكامنة وراء كتابي د. أكمل الدين إحسان أوغلي. فتركيا, مثلها مثل مصر, تمتلك المقومات اللازمة لتكون همزة الوصل بين الشرق والغرب.