يغمرني شعور بالسعادة عندما أكتشف أن شخصية غير مصرية لامعة بالخارج قد نشأت في أحضان مصر وتلقت دراستها بها, وأن مياه النيل قد ساهمت في شد عودها فارتبطت بمصر بعلاقة وجدانية لا تنمحي. وعادة ما تكون هذه الشخصيات عربية. أما أكمل الدين إحسان أوغلي أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي فهو تركي ولد بالقاهرة في أربعينات القرن العشرين, وعاش بها أعذب أيام طفولته وشبابه وتخرج في كلية علوم عين شمس وحصل علي الماجستير في الكيمياء قبل أن يغادر بلادنا إلي بلده الأصلي. ورث عن أبيه الولع بالعلاقة بين تركيا والعالم العربي خاصة مصر. فقد كان والده مسئولا عن قسم الوثائق التركية بالقصر الملكي خلال حكم فؤاد الأول, ثم حكم ابنه فاروق. وازدادت سعادتي عندما سمعت الدكتور أكمل الدين يقول إنه أجاد قراءة العربية في صباه بفضل صحيفة الأهرام وتفتحت مداركه من خلال قراءتها, وهو لا يزال يتابعها يوميا قبل أي صحيفة أخري. ولمنظمة المؤتمر الإسلامي ذكريات هامة في حياتي حيث اضطلعت في بداية السبعينات من القرن الماضي بمهمة ترجمة ميثاق المنظمة الوليدة آنذاك من العربية إلي اللغة الفرنسية مع الزميل الراحل كمال عزت بمدينة جدة وكان مقرها بطريق مكة الكيلو4 ولا أعرف إن كانت لا تزال بنفس المكان أم لا. وكان يتولي ترجمة الميثاق إلي الانجليزية الزميلان الكبيران الراحلان سمير سرحان وعبد العزيز حمودة. وكنا نجلس نحن الأربعة حول طاولة واحدة أمام النص العربي الأصلي, ونتباري في إيجاد أفضل التعبيرات وهي عادة ما تكون متشابهة في اللغتين الانجليزية والفرنسية. وبرغم انقطاع صلتي بالمنظمة إلا أن تلك الذكريات الجميلة جعلتني أتابع أخبارها بحنين, وأثلج صدري أن يتم اختيار أمينها العام بالانتخاب, بدلا من التعيين وكان أول من انتخب منذ خمس سنوات التركي أكمل الدين إحسان أوغلي. وقد وقع تحت يدي مؤخرا كتابان من تأليف الدكتور أكمل الدين الأول بعنوان الثقافة التركية في مصرب والآخر االأتراك في مصر وتراثهم الثقافيب. وكان الكتابان مفاجأة بالنسبة لي.. فهما يحملان بعدا تجهله تماما أجيال ما بعد الثورة, وهو مدي الوجود التركي المتواصل في مصر, والتأثر المتبادل بين الجانبين في كافة المجالات وفي العادات والتقاليد. وقد لا يكون الكثيرون منا واعين إلي أن معظم حكام مصر ظلوا لنحو ألف عام يتحدثون اللغة التركية ويصدرون فرامانات وأحكاما بهذه اللغة. فباستثناء حقبة الفاطميين(969-1171) كانت الغالبية العظمي من حكام مصر, إما من الأتراك, أو من أجناس قريبة منهم وتتحدث لغتهم. لذلل فإن أهم الوثائق التاريخية بدار الكتب المصرية مكتوبة بالتركية. وفي تاريخ مصر الحديث كان أفراد أسرة محمد علي الحاكمة(1805-1952) لا يتحدثون إلا التركية ولا يعرفون العربية إلا فيما ندر. والمفارقة هي أن أول حاكم هجر التركية وكان يجيد العربية إجادة تامة وهو الملك فاروق, هو الذي قامت ضده الثورة وتم طرده من مصر. ولثورة يوليو إنجازات كبيرة كما أن لها أخطاء كبيرة. وطبعا سيقول مؤيدو الثورة أنني أهذي لأنني أري فيها أخطاء كبيرة. أما أعداؤها الألداء فسيرون أني أهذي لأنني أري فيها مزايا وإنجازات. لكن الواقع أن لها الاثنين, وكانت هذه الثورة التي غيرت وجه مصر والمنطقة بأكملها نتاجا طبيعيا لحقبة فاصلة في تاريخ مصر والعالم. ولعل من أهم أخطائها أنها حاولت أن تمحو من الذاكرة حقبة أسرة محمد علي وذلك علي أساس أنها مرحلة من الظلم والاستعباد. وكان من بين نتائج ذلك أن العلاقة بين مصر والأتراك دخلت إلي حيز الظلام لأكثر من نصف قرن وتحديدا منذ اندلاع الثورة. حتي الذين يمجدون الملكية وحقبة أسرة محمد علي الآن يفعلون ذلك لتجريح الثورة وتشويه صورتها, لكنهم يجهلون تماما الحياة الاجتماعية والثقافية خلال تلك المرحلة التي شهدت تأثيرا ضخما للأتراك علي الطبقات العليا الحاكمة. ومن الجانب الآخر اعتبرت تركيا أن العرب طعنوها من الخلف خلال الحرب العالمية الثانية, عندما أعلنوا الثورة علي الحكم العثماني, وساهموا بذلك في هزيمتها وتقطيع أوصال الدولة العثمانية. وقرر الزعيم التركي كمال أتاتورك قطع صلات بلاده بالعالم العربي فبدل الأبجدية من العربية إلي الحروف اللاتينية, واتخذ إجراءات أخري لتحويل تركيا من دولة شرقية إلي دولة غربية. فقد كان يعتبر أن الارتباط بالعالم العربي سوف يجر تركيا إلي الوراء بينما ربطها بأوروبا هو الوسيلة المثلي للتقدم والرقي. وبذلك فقد جاءت القطيعة من الطرفين وتوارت قرون من التاريخ المشترك ولم تعد الأجيال الجديدة تدرك أن الأتراك كانوا يحكمون العالم العربي والإسلامي خلال معظم الفترات منذ سقوط بغداد في يد السلاحقة عام1055, ثم في مرحلة لاحقة عندما احتل السلطان سليم الأول الشام ومصر ما بين1516 و1517, وأخضع كل العالم العربي للسيطرة العثمانية باستثناء المغرب والمناطق غير الساحلية بالجزيرة العربية. أما مصر فقد بدأ الحكم التركي بها منذ استقل أحمد بن طولون عن الحكم العباسي في بغداد عام868, وكانت غالبية المماليك تتحدث التركية وظلوا يلعبون دورا أساسيا في حكم مصر حتي قضي عليهم محمد علي في مذبحة القلعة الشهيرة عام1811 وبرغم كل هذا الوجود التركي في مصر فلم يكن للأتراك تأثير ثقافي في العمق. والسبب في رأيي هو أن الحكام وقادة الجيوش من الأتراك لم يكونوا علي اتصال بالشعب, ولم يكونوا راغبين في السيطرة الثقافية بل كانوا يعيشون في بروج عاجية ويتركون للسلطات الدينية الهيمنة علي عقول أفراد الشعب. وسوف أخصص مقالي المقبل لاستعراض أهم المعلومات التي وردت في كتابي د. أكمل الدين, ومنها كلمات نستخدمها يوميا ولا نعلم أنها من أصل تركي.