غريب أمر الحياة السياسية في مصر هذه الأيام.. يتدافعون بالمناكب من أجل ضمان الحصول علي أكبر عدد من المقاعد في التشكيل الجديد لاللجنة التأسيسية لوضع الدستورس تتجاوز شهرا, وأن الدستور الجديد في رأي الكثيرين منهم سوف يعتمد بصفة أساسية علي نصوص (دستور1971).. يري هؤلاء أنه لا يوجد خلاف تقريبا حول الأبواب الأربعة الأولي من (دستور1971), وأن التعديل, سوف ينصب أساسا علي الباب الخامس: (نظام الحكم). وتلك في رأينا من عجائب الأمور..! فهل يعقل أن تتبني ثورة 25 يناير أبواب (الدولة) و(مقومات المجتمع) و(الحريات والحقوق والواجبات العامة) من دستور (السادات مبارك)؟ وهل قامت الثورة إلا من أجل إحداث التغيير الجذري لكل ما يتصل بذلك الدستور وبما يحيط به من جوانب النظام الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي..؟ أليس لدي الثورة ما تغيره جذريا من فهم النظام القديم لروح العصر عالميا وعربيا, وأليس لديها ما تؤكد به تحولات ميزان القوة الاجتماعية والسياسية في المجتمع المصري...؟ من رأينا أن لدي الثورة, ثورة 25 يناير, ما يمكن, وما ينبغي, أن تقوم به من عمل كبير في الدستور الجديد, وأنه لا يجدي ترقيع أو تنقيح في أبواب دستور 1971, تعديلا أو إضافة وحذفا, بل يجب إنشاء الدستور إنشاء جديدا, وأن هذا العمل يجب أن يتم علي أوسع قاعدة ممكنة من المشاورة المجتمعية, بمشاركة شباب المثقفين, والعمال والفلاحين, والعاملين في جهاز الدولة والقطاع العام, والمهنيين, والتعاونيين, والمبادرين بالمشروعات الخاصة المنتجة. ونشير هنا, في عجالة سريعة, إلي أمرين: أولا: ضعف المبني والمعني في دستور 1971, بالنظر إلي تكوينه من خليط غير متجانس من الدساتير والإعلانات الدستورية المتعاقبة علي مصر خلال خمسين عاما, بحيث بدا دستورا هجينا; ثم بالنظر إلي محاولة ذلك الدستور حل التناقض غير القابل للحل: أي تبرير السلطة المطلقة لرأس الدولة (السادات ثم مبارك) بعد أن انقضت الظروف الموضوعية والذاتية التي مكنت لسلطة الزعيم (جمال عبد الناصر) في ظل ثورة يوليو. ومن هنا, جاءت الصياغة الغامضة للباب الأول: (الدولة), والكتابة الركيكة للباب الثاني: (المقومات الأساسية للمجتمع), والنقص المعيب في الباب الثالث: (الحريات والحقوق والواجبات العامة), والإضافة غير المبررة تماما للباب الرابع: (سيادة القانون), وطابع التعمد وسبق الإصرار في الباب الخامس: (نظام الحكم), ووضع الباب السادس في غير موضعه: (أحكام عامة وانتقالية), ثم العودة إلي التعمد وسبق الإصرار لوضع "مجلس الشورى" و"سلطة الصحافة" فى الباب السابع: (أحكام جديدة) ثانيا: إن هناك تساؤلات جادة ينبغي أن تطرح علي أوسع نطاق, وأن تتم الإجابة عنها كأعمق ما تكون الإجابة, من قبل النخبة والجماهير, بروح ثورة 25 يناير, قبل وضع الدستور المنشود. ومن بين هذه التساؤلات نطرح عينة موجزة فيما يأتي: أي نظام اقتصادي واجتماعي يمثل الثورة حقا...؟ وأي فكر اقتصادي واجتماعي يوجه هذا النظام: رأسمالي, أم اشتراكي, أم غير ذلك: اقتصاد إسلامي مثلا, وما هي أبعاد وظيفة الدولة في الفضاء الاقتصادي والاجتماعي المصري؟ ما طبيعة الاستراتيجية التنموية المبتغاة, وما العلاقة بين بعدها الاقتصادي وكل من البعد الاجتماعي والسياسي والثقافي والبيئي والعلمي والتكنولوجي والبشري..؟ أي دور للقطاع العام في تشكيلة الاقتصاد الوطني, وما حدود هذا الدور وضوابطه؟ وأي دور للقطاع التعاوني وللمجتمع المدني..؟ هل نسعي إلي (اقتصاد حر) أم (اقتصاد موجه و مخطط..)؟ وإن اتفقنا علي اتباع النظام التخطيطي من حيث المبدأ, فما طبيعة هذا النظام: تخطيط قومي شامل أم تخطيط جزئي, أم تأشيريس ز س.. (اقتصاد السوق الاجتماعي). أليس من الأوفق تخصيص باب جديد في الدستور,عن حقوق الفرد والجماعة, باسم( الحقوق الاقتصادية والاجتماعية), بحيث يتضمن ويضمن ما يأتي: حقوق الأفراد, وفي مقدمتها: حق الإنسان في تكوين أسرة حق التشغيل والتعويض عن البطالة حق الرعاية الصحية الجيدة, الأولية والمتقدمة حق التعليم الجيد والإلزامي حتي نهاية المرحلة الثانوية, والتعليم المجاني حتي نهاية المرحلة الجامعية حق السكن وبإيجار معقول حق الحصول علي السلع والخدمات العامة بأسعار متناسبة مع مستويات الدخول حق الإعلام والحصول علي المعلومات.2 حقوق الجماعة, وفي مقدمتها: الحق في التنمية, الحق في نصيب متكافيء من الدخل والثروة, الحق في الأمن الشخصي والأمان المجتمعي. ما أبعاد العلاقة بين أضلاع ثلاثية: الأجور والأسعار والإنتاجية..؟, وما دور مؤسسة القوات المسلحة في المجتمعس( قانون الطوارئ) المنظم لحالة الطوارئ؟ وإذا ألغي فما البديل..؟ وأخيرا, ولكن ليس آخرا, كيف تنظم العلاقة بين السلطات؟ و ما هي الرؤية المستقبلية بعيدة الأجل لنظام الحكم والنظام السياسي..؟ من أجل ذلك, وغيره, نري من غير الملائم التعجل بإصدار الدستور الدائم خلال الفترة القصيرة المتبقية منذ الآن وحتي التاريخ المفترض لانتقال السلطة, بحلول الثلاثين من يونيو .2012 وإنما تقتضي الفطنة وحسن التدبر, تكليف اللجنة التأسيسية, المعاد تشكيلها, بوضع دستور انتقالي يستمر لمدة تتراوح بين سنتين وأربع سنوات, علي أن يتم انتخاب جمعية تأسيسية بالاقتراع العام, تكلف بوضع الدستور الدائم, عبر تطبيق أسلوب( المشاورة الجماعية) علي أوسع نطاق مجتمعي ممكن, خلال الفترة المقبلة. وخلاصة الأمر, أنه يحسن أن يوضع دستور مؤقت لتغطية مهام المرحلة الانتقالية, بينما يجب أن يوضع الدستور الدائم, علي مهل, للاستفادة من دروس الماضي, ومن أجل الاستجابة لنداء المستقبل, بما يلبي طموح أولئك الفتية الذين قاموا بالثورة, وماتوا في سبيلها, وتحملوا التضحيات الجسام من أجل انتصارها.