هل مئات الكتب وعشرات الآلاف من المقالات الناقدة للتاريخ الإسلامى وسردياته الوضعية ستؤثر على عقائد المؤمنين به رسالة وعقيدة وشريعة وقيما وأخلاقيات وثقافة؟ هل مئات الكتب وعشرات الآلاف من المقالات النقدية للمسيحية الأرثوذكسية ستؤثر على العقيدة واللاهوت الأرثوذكسى المصرى؟ هل إذ وجد نص فى الدستور يؤكد مدنية الدولة سيؤثر على هوية - والأحرى هويات - المصريين، تاريخا وثقافة وتعددا وتطورا وانفتاحا للهوية على زمانها ومكانها وشعبها ومحمولاته الثقافية؟ يبدو أن هذا النمط من الأسئلة الحاملة لبداهاتها هى أحد أبرز وجوه الأزمة المستمرة للعقل المصرى المعاصر، الذى يبدو أن بعض نخبه السياسية والثقافية أدمنت البداهات، وإعادة تلاوتها وإنتاجها على نحو بات يشكل إرباكا للعقل والفكر والسلوك السياسى والدينى، لأن هذه الأسئلة لا تحرك العمليات الذهنية، ولا تساءل الأسئلة ذاتها، ولا يساءل طارحوها أنفسهم بين الحين والآخر حول مدى دقة السؤال وتعبيره عن المشكلة أو الأزمة أو الإشكالية التى يعانيها المجتمع والدولة والنخبة السياسية الحاكمة. الذى يدفع بنا إلى طرح الأسئلة السابقة وغيرها أنها مستمرة، ومعها بعض الإجابات عنها، ومع ذلك لا يزال بعضهم فى الدوائر الدينية السياسية وغيرها يطرحونها. سؤال الهوية الذى يطرح بين الحين والآخر يخلط بين الهوية ككائن حى ومتطور ومنفتح ومستمر، وبين تصور نمطى وضمنى للهوية يربطها بتصوراته الوضعية حول الديانة الإسلامية، أو حول المسيحية الأرثوذكسية «والقبطية» وكأن الهوية معطى تاريخى لمرة واحدة، ووفق مكون دينى واحد ومنذ بدء الرسالة الدينية - العقيدة والشريعة والطقوس.. الخ -، وهو خلط بين الديانة والإيمان وبين الهوية ذات المكونات والأبعاد المتعددة، والتى تتطور فى مكوناتها وتفاعلاتها، ويتداخل فيها البشرى والرمزى والتقنى والتفاعل بين الذات والآخرين أيا كانوا على تعددهم. بعض رجال الدين وسدنة الإسلام السياسى ومنظريه وحركييه يحاولون تنميط مفهوم الهوية وفق تصوراتهم الوضعية والتأويلية للإسلام وقصر فهمه وتفسيره على انحيازاتهم السياسية والفقهية وصراعهم على السلطة من خلال توظيف هذا الفهم القاصر وغير العلمى عن الهوية فى الصراع السياسى مع الدولة وأجهزتها والقوى السياسية الأخرى، ومحاولة الإخضاع الرمزى للمجتمع ومكوناته لهذا الفهم واعتبار سواه مضادا للهوية والإسلام وخطرا عليهما معا. لغة وفهم للهوية يبدو خارج التاريخ والمعرفة التاريخية والسوسيولوجية والأنثربولوجية بامتياز. من هنا يبدو هذا النمط المغلق من تعريف وفهم الهوية يتسم باللا علمية والبساطة والسطحية، ومع ذلك تحول سؤال الهوية إلى سؤال لا تاريخى، يؤدى إلى إضفاء التشوش على العقل الجماعى للأغلبية، ورغما عن لا علمية السؤال ولا تاريخيته فإن المواطن البسيط من آحاد الناس يعيش هويته دون أسئلة أو تناقض أو اضطراب، والذى يحاول إضفاء حالة التشوش والتناقض لدى آحاد الناس هم نخب ومشايخ ومنظرو الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية ومشايخ الغلو الدينى وبعض الأزهريين الذين وصلت بعض تأويلاتهم البشرية إلى مستوى التنظير للتوحش والإرهاب على نمط داعش والنصرة ونظائرهم وأشباههم. المؤمن المسلم يعيش حياته فى سلام مع الذات وفى خضوع لله سبحانه وتعالى، والمنظرون والحركيون السياسيون الإسلاميون هم الذين يحاولون فرض تناقضات بين الإيمان السمح والبسيط، وبين حياة الناس بديلا عن الاجتهاد لرفع التناقضات بين الفقه والتفسير والعصر ومشكلاته المعقدة. من ثم النص على هويات فى الدساتير لا يؤثر كثيرا على هويات المواطنين وشعورهم بها وحياتهم معها، وإنما الذى يؤثر هو توظيف الدين السياسى فى فرض الهويات المغلقة. هل الآراء الناقدة لبعض الكتابات التاريخية والفقهية والتفسيرية والتأويلية الوضعية للإسلام تؤثر على إيمان المسلمين؟ هل السرديات الشعرية والروائية والقصصية والمسرحية التى تتحدث بعض شخوصها عن الجنس العارى، أو الإلحاد أو اللغة العارية هى تشخيص للواقع ولآراء المؤلف؟ الواقع فى السرد ليس هو الواقع الموضوعى، وإنما هو واقع تخيلى، والخلط بينهما يجافى منطق السرد وأبنيته ولغته وتخيلاته، ويبدو مثيرا للسخرية أن يتحدث شخص ملحد فى عمل روائى أو قصصى بلغة المؤمن أو رجل الدين! وكذلك الأمر لشخصية متهتكة أن تتحدث بلغة الأخلاقيات الفضلى بينما تاريخها ولغتها وسلوكها صنوُّ التهتك والإباحية.. وهكذا يبدو خطأ وخطراً خلطُ بعض القراء بين الواقع والتخيل، وتحول القارئ إلى محتسب أو قاض يحكم على النص والخطاب الأدبى الروائى والقصصى والشعرى والمسرحى، بوصفه نصا دينيا أو أخلاقيا أو عملاً مناهضاً للدين والأخلاق والآداب العامة والأخطر تحول القراءة إلى محاكمة جنائية للنص. من الشيق ملاحظة أن التراث العربى غنى بهذه النصوص الجنسية والإلحادية المتخيلة، وكان كبار الفقهاء العظام يوردون الرأى الإلحادى كاملا، ويردون عليه، لكن يبدو أنه كلما قل التعمق والعلم فى الدين، كلما قل التسامح والفهم وانتشر الرعب من الإبداع التخيلى. إن عشرات الآلاف من المقالات، وآلاف الكتب النقدية، للوضعى الدينى لا تؤثر على إيمان الغالبية الساحقة الماحقة من المسلمين أو الأقباط، ومن ثم تبدو دعاوى الحسبة وازدراء الأديان محاولة لإرباك المجتمع والدولة معا فى أعمال وآراء لا يهتم بها الناس كثيرا، ومجالها هو ساحة النقد الأدبى والفلسفى والسوسيولوجى والثقافى فى إطار حريات الرأى والتعبير، حيث الكتاب بالكتاب والرأى بالرأى والمقال بالمقال، من ثم ضرورة إعادة روح التسامح العقلى ورصانة النقد إلى واجهة المجال العام. ومن هنا يتعين إتاحة المجال للآراء المختلفة للتداول لأن الذى يريد حصار حرية الرأى لا يدافع عن الإسلام أو المسيحية إنما يدافع عن مكانته ومصالحه أو سعيا وراء الشهرة والرواج. أن تاريخ القضاء المصرى شهد أحكاما ومبادئ قانونية رفيعة أكدت حرية العقل الناقد والحق فى الاختلاف والاجتهاد والخطأ.. نعم حرية الخطأ طالما رائدها البحث عن الحقيقة والمعرفة البصيرة. من ثم لابد من وقفة حازمة من الدولة إزاء الاستخدام غير المسئول لدعاوى الحسبة الذى يرمى إلى مطاردة حرية العقل والإبداع والتعبير والخطأ الذى يصحح بالرأى الآخر والفكرة المغايرة. إن حرية الرأى والتعبير هى مدخلنا للانتقال من العقل النقلى والاتباعى إلى العقل النقدى الخلاق.. كفى هدرا للوقت والجهد، وليلغى البرلمان قانون الحسبة، كفى إساءة للإسلام والدولة والأمة والأخلاقيات العامة المتغيرة باسم احتكار الحقيقة والإيمان... لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح