الرقابة الدستورية شرعت لحمل سلطات الدولة على الالتزام بحدود الدستور ونطاقه، وأن رقابة دستورية القوانين انما تنبسط على النشاط الايجابى للمشرع , وهذه هى الصورة التقليدية للرقابة على المشرع , فهل يمكن اعمال الرقابة الدستورية كذلك على النشاط السلبى للمشرع، أى امتناع المشرع عن تناول موضوع معين من الحقوق والحريات حال الزام الدستور له بتنظيمها؟ وهل السلطة التشريعية حرة فى اصدار القوانين أم مقيدة طبقا لما وضعه الدستور من مبادئ ؟ وهو ما يثير حديثا ظاهرة الاغفال التشريعى. يقول المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة أن هذه الأشكالية تم تناولها فى بحث قانونى منشور بمجلة علمية مؤكدا أن محكمة القضاء الادارى برئاسة المستشار يحيى راغب دكرورى نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس محاكم القضاء الادارى، أصدرت حكما يعالج هذه المسألة باحالة - 9 مواد جملة واحدة - من قانون التأمين الاجتماعى الى المحكمة الدستورية العليا، فيما لم تتضمنه هذه المواد من النص على تحديد حد أدنى للمعاشات يضمن الحياة الكريمة للمتقاعدين مشيرا الى أن البحث تضمن. اولا: أن حكم القضاء الادارى ذهب الى أن الاغفال التشريعى يعنى أن يتخذ المشرع موقفا سلبيا، من أختصاصه الدستورى نحو اصدار قانون ما كان من الواجب عليه اصداره, متسلبا من ممارسة هذا الاختصاص, ممتنعا عن اصدار قانون حال أن الدستور خصه بالحماية الدستورية، ويترتب على هذا الاغفال التشريعى قصور فى التنظيم التشريعى لتلك الحقوق والحريات بما يؤدى الى الحرمان او الانتقاص منها على خلاف احكام الدستور. ثانيا: أنه وفقا لحكم القضاء الادارى المذكور فان هذا التقاعس والاحجام من المشرع عن ممارسة اختصاصه بهذا الشأن وهو الاغفال التشريعى يؤدى الى مضار كثير, اذ يخالف الدستور ويهدر احكامه ويعطلها ويجرد المواطنين من الحماية الدستورية المقررة لحقوقهم وحرياتهم, وهذا له عواقب وخيمة تتمثل فى تبديد ثقة المواطنين بالدستور, على الرغم من انها فى الاصل قواعد تتمتع بأعلى درجات الالزام الدستورى. ثالثا: كما أن حكم القضاء الادارى برئاسة المستشار يحيى دكرورى، يقدم تطبيقا حيا لأول تطبيق عملى، يعد تاليا للدستور المعدل الصادر فى 18 يناير 2014، عن فكرة الاغفال التشريعى، كما انه يحدد مفهوما دستوريا راقيا للمعاش, اذ ذهب الى أن المعاش فى مفهوم الدستور ليس صدقة تتصدق بها الدولة على المواطنين وأنما هو حق للمؤمن عليهم او المستحقين عنهم والتمتع بالحقوق لا يتم الا باتاحة كاملة دون نقصان او جور عليها او تطفيف يفرغها من مضمونها, ولم يرد النص فى الدستور على تحديد حد ادنى للمعاشات عبثا, وانما قصد منه تقرير حق دستورى للمؤمن عليهم او المستحقين عنهم فى الحصول على معاش يضمن لهم الحياة الكريمة من غير بخس او ظلم . رابعا: ويضيف الدكتور خفاجى أن هذا الحكم المهم انما يعد حكما مبسطا ميسورا لتفعيل مواد الدستور, فان لم تقم السلطة التشريعية بتفعيل تلك المواد لتكون نصوصا حية بين الناس فانها تصبح كأعجاز نخل خاوية ! لذا قام المجلس الدستورى الفرنسى والمحكمة الدستورية العليا الايطالية بالرقابة على ظاهرة الاغفال التشريعى. خامسا: ويشير الدكتور محمد خفاجى الى أن بعض الفقهاء التقليديين يطالبون بالسلطة المطلقة للمشرع وينتقدون الرقابة على النشاط السلبى له، ولهؤلاء نقول أن اطلاق سلطة المشرع فى غيبة من الالزام الدستورى، يؤدى الى طغيان احدى أهم سلطات الدولة, فضلا عن تعارضه مع علو الدستور, فالسكوت المطلق للمشرع عن تنظيم الحقوق والحريات لا يمكن السكوت عليه, فالدستور ليس مجرد نصوص تصدر لقيم مثالية ترنو الأجيال إليها، وإنما يتضمن قواعد ملزمة لسلطات الدولة، ومن ثم فان حكم القضاء الادارى الذى أصدره المستشار يحيى دكرورى من شأنه ان يؤدى الى ترسيخ مفهوم جديد لاركان التوازن الفعال لمبدأ الفصل بين السلطات لتمارس السلطة التشريعية اختصاصاتها دون تسلب او اعتصام.