يشرق على العالم عيد ميلاد المسيح وهو ضياء مجد الله وجوهر طبيعته، يشرق على عالمنا المثخن بالجراح، يمزقه الألم وتطوف به مأساة الحروب واللاجئين الهاربين من الموت والمطرودين من ديارهم وكأننا نسمع صوت الخالق يتردد فى صدى التاريخ يخاطب قايين ماذا صنعت؟ إن صوت دماء أخيك صارخ إلىّ من الأرض، والآن فملعون أنت من الأرض التى فتحت فاها لتقبل دماء أخيك من يدك (التكوين 4: 1011) كأننا نسمع الصوت الإلهى فى أيامنا، ونحن نرى الدماء البريئة تسفك، والدموع الحزينة تسيل، والأسرة البشرية لم يصل إدراكها بعد إلى أنها أسرة واحدة وعائلة واحدة أبناء الله، كافة البشر، لا يمكن أن يكون فيها أمن وسلام واستقرار ويموت منها فى كل عام الملايين جوعا وعطشا، كما يذهب الأطفال ضحايا العنف مع الملايين التى فقدت الرجاء والأمل فى مستقبل أفضل، فى زحام هذه الآلام والقضايا، يطل علينا عيد ميلاد المسيح الذى جاء ليحقق فى شخصه قول داود النبى فى المزمور الرحمة والحق تلاقيا، العدل والسلام تعانقا. يفيض الكتاب المقدس بعبارة الرحمة الإلهية فالله هو خالق البشر وهو الذى يرحم الجميع وبدون رحمته ومغفرته لا تستقيم الحياة، يصلى داود النبى أرحمنى يا الله كعظيم رحمتك (مزمور:50) ويعلن الله صراحة: أنى أريد رحمة لا ذبيحة (هوشع 6:6 متى 9:13) وأعظم ثمرة للرحمة هى العدل، ووضع لنا المسيح شريعة المحبة مقترنة دائما بشريعة الحق، لا مغفرة للإنسان إلا إذا غفر لأخيه الإنسان، هكذا فى العهد القديم والجديد (يشوع بن سيراخ 28:2 متى 6:14). وقد أعلن قداسة البابا فرنسيس تكريس سنة 2016 يوبيلا استثنائيا لأفعال الرحمة فى كل أنحاء العالم، وتقوم فى أن يعيش الإنسان فى أسرته رحيما بها، وفى عمله رحيما بمن حوله، وفى كل سلوكه رحيما يسعى إلى الحق، يظن كثيرون ويعلنون أن قضية العالم ومشكلته هى الاقتصاد، نعم ولكن العالم قبل السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا يحتاج إلى الرحمة واحترام الحقوق لكل إنسان فى كل نواحى الحياة، فإن كانت المحبة أعظم من الإيمان (رسالة كورنتوس الأولى 13:13) فالرحمة والحق أعظم من كل الثروات، وقد حقق المسيح الرحمة بحياته وبتعاليمه، وأنار لنا طريق الحق وعلى العالم أن يتخذ من تعاليمه نورا ونبراسا له. لقد أعلنت سنة 2016 سنة الرحمة لأن الأسرة البشرية فى العالم كافة فى أشد الحاجة إلى الرحمة والغفران والتسامح، وفى الثامن من هذا الشهر قام قداسة البابا بفتح باب اليوبيل فى كنيسة القديس بطرس بروما كرمز لفتح قلوبنا لنيل رحمة الله وغفرانه بالتوبة وممارسة سر الاعتراف والمصالحة، وتجديد حياتنا وسلوكنا، وانفتاح حياتنا على الآخر الذى نعيش معه، فى الأسرة وفى كل مجتمع وجماعة نعيش فيها، فيكون للإنسان الآخر قيمة ومكان فى حياتنا فالرحمة ليست مجرد عواطف وشفقة لرؤية من يعانى ويتألم، وإنما تقوم فى أن أكون أكثر إيجابية، وأن أفتح قلبى وعقلى لكل إنسان ولا أتكاسل عن عمل الخير، فالابتسامة رحمة، والإصغاء للآخر باحترام رحمة، ومساندة الضعفاء والفقراء على المستوى الإنسانى والروحى والاقتصادى رحمة، والأمانة والصدق فى أى عمل تقوم به رحمة لأنه يساهم فى بنيان عالم أفضل. نصلى دوما ارحمنا يا الله (وهذا معنى كلمة كيرياليسون) إن كان الله أرحم الراحمين فإنه القدوس العدل، والعدل يؤدى إلى السلام، إن تجسد الكلمة دليل إلهى على قيمة الإنسان والحياة الإنسانية، والله يحب ويحترم كل إنسان خلقه على صورته ومثاله، فليس هناك إنسان يكون موضوعا للاحتقار، وليس من حق أى إنسان أن يدوس على حقوق الإنسان الآخر، إن تنوع الجنس البشرى فى أديانه ولونه وتقاليده وثقافاته لا يلغى وحدة جنسه فآدم هو أبو البشرية والمسيح آدم الثانى جاء من أجل كل البشرية، فأى قيمة أعظم من قيمة الإنسان فى هذا الوجود! وما يحدث فى أنحاء العالم من حروب جراء الصراع السياسى أو الدينى أو المذهبى إنما هو صراع من عمل الشيطان عدو الخير، فالبشر أسرة واحدة شاءوا أم أبوا هكذا خلقنا ولا نهضة حقيقية أو تنمية شاملة إلا إذا تعانق العدل والسلام، من أجل هذا ولد المسيح، ليعيد صياغة علاقة الحب بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، العدل يثمر السلام، والسلام يشيع الأمن والاستقرار، وتبنى الحضارات على مبادئ الرحمة والحق والعدل والسلام التى جسدها المسيح فى حياته منذ مولده فى بيت لحم، وحتى قيامته من الموت، إننا مدعوون كبشر جميعا لأن نبنى تقدمنا ومستقبلنا على هذه المبادئ السامية، والعالم اليوم، وفى المستقبل فى حاجة دوما أن يتذكرها، وبخاصة يوم ميلاد المسيح حين اتحدت السماء والأرض فى أنشودة خالدة: المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وفى الناس المسرة. متحدين مع قداسة البابا فرنسيس الذى يصلى دوما من أجل شرقنا العزيز، ومع أخوتنا بطاركة وأساقفة كل الكنائس، ومن كنيستنا هذه نرفع صلاتنا باسمكم جميعا من أجل أن يعود العدل والسلام المفقودان فى العالم، وأن يشملنا الله برحمته ويغمر قلوبنا بالرحمة تجاه بعضنا البعض. نصلى من أجل أمن مصر وأمانها وأن تكون كما كانت على الدوام صاحبة الرسالة المميزة فى تاريخ الحضارات وصانعة سلام وجسرا للحوار وواحة للقاء، ونصلى من أجل عائلاتنا حتى تستمر فى الحفاظ على وحدتها، وأن يسود حياتنا الغفران والرحمة والاحترام المتبادل، وأن ننبذ كل عنف وإهانة ولا مبالاة، وأن يكون الاصغاء والحوار فى احترام متبادل هو أداتنا الأولى والأساسية فى التعامل فيما بيننا. تهنئة صادقة للجميع مع أمنيتى أن تكون حياتنا تجسيدا للرحمة والحق وللعدالة والسلام. بطريرك الإسكندرية للاقباط الكاثوليك بمصر والمهجر لمزيد من مقالات الانبا ابراهيم اسحق