إذا أرادت مصر والمصريون أن يباهوا الأمم بالسماحة والتعايش بين مسلميها وأقباطها، فليسردوا تاريخ الكاتدرائية المرقسية بالعباسية (مقر رئاسة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وبطاركتها العظام). فكل حجر فى هذا المكان يعد حسب العقيدة المسيحية، «السماء التى على الأرض»، وكل حبة تراب وكل من تلتقيه فيها من بشر بداية من البابا ومرورا بالقساوسة ووصولا الى المواطنين من أقباط ومسلمين سيروون لك حكايات قد يعتبرها البعض من المستحيلات أو النوادر. ولهذا وللمرة الأولى تصور قاعاتها الداخلية وتستعرض أيقوناتها. الكاتدرائية أو البطريركية معناها المكان الكبير الذى يجلس فيه رئيس الكنيسة، كما أوضح لنا القمص سرجيوس سرجيوس, وكيل عام بطريركية الأقباط الأرثوذكس بالقاهرة, والذى اصطحبنا فى جولة بأرجائها الواسعة وكنائسها ومبانيها المختلفة، قائلاً بفخر: حجر أساس البطريركية تم وضعه فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر, وحبريه (عهد) البابا كيرلس السادس البابا ال 116 فى تاريخ الكنيسة, فى يوم السبت الموافق 24 يوليو 1965، وفى أغسطس 1967 بدأت عملية حفر الأساسات, وشارك فى التبرع لبنائها الرئيس جمال عبد الناصر بمبلغ مائة ألف جنيه، بل إن أولاده تبرعوا من مصروفهم الخاص للمشاركة فى بنائها وسلموا تبرعهم للبابا كيرلس السادس عندما كان فى زيارة خاصة لمنزلهم . وتولى المعماريان عوض وسليم كامل فهمى عملية التصميم, وأشرف على الانشاء والتنفيذ المهندس ميشيل باخوم من شركة النيل العامة للخرسانة المسلحة, وبلغت التكلفة نحو 350 ألف جنيه . وفى يوم الثلاثاء 25 يونيو 1968 - وفى احتفال مهيب حضره الرئيس جمال عبد الناصر وإمبراطور إثيوبيا هيلاسلاسى والبابا كيرلس السادس- تم افتتاح الكاتدرائية المرقسية بالعباسية والتى وصفها القمص سرجيوس بأنها «معقل من معاقل الوطنية المصرية، والبوتقة التى ينصهر داخلها كل المصريين». وأضاف أنه «منذ إنشائها وحتى يومنا هذا, عبر مايقرب من نصف قرن من الزمان, استقبلت أرضها كل رؤساء مصر وكل شيوخ الأزهر الشريف وكل القيادات الدينية الاسلامية وكل السياسيين, بل وكل ضيوف مصر الكبار والملايين من المسلمين والمسيحيين. فمن لم يأت للكاتدرائية لحضور احتفالات أعياد الميلاد والقيامة والزفاف, جاء للمشاركة فى جنازات من يعتبرون رموزآ مصرية خالصة. فمن ينسى حضور عشرات الآلاف من المحبين للوطنى العظيم البابا شنودة الثالث يوم رحيله فى 17مارس 2012». وكمبنى هندسى تعتبر الكاتدرائية المرقسية - المسماه على اسم القديس مرقس الرسول الذى بشر بالمسيحية فى مصر وحامل رقم الأول بين باباوات الكنيسة المصرية ال 118- هى الأكبر كمساحة فى كنائس الكرازة المرقسية, فتبلغ مساحتها (2500) متر مربع, وتتكون من الداخل من الكنيسة الكبرى, التى تحمل إسم القديس مرقس, وكنائس أخرى صغيرة تحمل أسماء العذراء مريم وبعض القديسين. أيضآ تضم الكاتدرائية المقر البابوى ومزارات عدد من القديسين (مار مرقس وأثناسيوس والأنبا رويس) وعددا من الباباوات . ويصف القمص سرجيوس زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى للكاتدرائية, ليلة عيد الميلاد فى 6 يناير 2015, بأنها «تاريخية بكل معنى الكلمة» فقد كانت الأولى التى يحضر فيها رئيس مصرى قداس العيد لتهنئة المصريين جميعا بعيد الميلاد المجيد. ويخضع مقر الكاتدرائية فى الوقت الراهن لأكبر عملية تجديد وصيانة فى تاريخها. وقد خص القمص سرجيوس «الأهرام» بزيارة داخل الكنيسة أثناء عملية رسم أيقوناتها طبقا للتقليد الكنسى. ومن داخل الكنيسة انفردنا بالصور الاولى المنشورة هنا، وستستمر عملية رسم الأيقونات حتى عام 2018 لتحتفل مصر بالذكرى الخمسين لافتتاح الكاتدرائية. ورغم التكتم الشديد على تفاصيل الأيقونات التى سيتم رسمها، الا أننا علمنا أن البابا تواضروس شكل لجنة خاصة من الاساقفة, وتم اختيار الفنانين الذين سيتولون هذه المهمة الخاصة بعد مسابقة عامة لكل الفنانين التشكيليين المهتمين بالفن القبطى. ويعتبر هذا العمل الفنى هو الأضخم فى تاريخ الكنيسة. وعن ذلك التاريخ يقول المفكر السياسى دكتور مصطفى الفقى: لعبت الكاتدرائية المرقسية القبطية الأرثوذكسية دورا رائدا ومؤثرا فى تاريخ مصر عبر العصور. وكان البطريرك دائما محط الأنظار ومحل الاحترام. ومازلنا نذكر أسماء مثل البابا كيرلس الرابع والخامس والسادس والبابا شنودة الثالث والبابا تواضروس الثانى، وأن البابا بطرس الجاويلى قد رفض الحماية الروسية على الكنيسة، فعندما أوفد اليه القيصر من يخطره بذلك، رد عليه هذا البابا المستنير بقوله: «إذا كان القيصر يعيش ويموت فكيف يستطيع حمايتنا، نحن فى حماية الرب الذى لا يموت؟» ويؤكد الفقى أن الكنيسة لعبت دورآ وطنيآ ضخما فى زمن 1919 وثورتها, وكانت مركز إشعاع للوطنية المصرية، ودعمت سعد زغلول ودعمت حزب الوفد وعاء الحركة الوطنية، ولم تخذل الوطن أبدا. ولاينسى التاريخ أنه عندما تعاون المعلم يعقوب المسيحى مع الحملة الفرنسية لفظته الكنيسة ورفض البابا دخوله اليها. فالكاتدرائية دائما معدن دينى وطنى صلب لا يهتز أبدآ وتعتبر إحدى القوى الناعمة لمصر, وتشكل مع الأزهر الشريف منارتين لشخصية مصر فى كل وقت . من جهته يحدثنا دكتور رسمى عبد الملك رستم العميد السابق لمعهد الدراسات القبطية ان عملية رسم أيقونات الكاتدرائية والاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيسها والاستعداد الكبير لهذه المناسبة من الآن, «يدل على أن الوطن المصرى يتعافى وتعود له قوة تماسكه»، وأضاف أن للكاتدرائية مكانة كبيرة لدى المصريين جميعآ مسلمين وأقباطا, و«أكبر دليل على ذلك انه عندما حاول بعض الخارجين عن الوطنية المصرية اقتحام الكاتدرائية، استنكر الشعب المصرى كله هذا التجاوز غير اللائق فى حق أحد الرموز الوطنية المصرية». وطالب عبدالملك أن يكون يوم الاحتفال بالذكرى الخمسين لافتتاح الكاتدرائية فى 25 يونية 2018 «عيدا وطنيا يحتفل به كل المصريين وتتم دعوة قيادات العالم السياسية والدينية ويرأس الاحتفال رأس الدولة مع البابا، لنقدم للعالم كله مصر الحقيقية التى لم تفرق يوما واحدا بين أبنائها وتعايش أقباطها مع مسلميها 14 قرنا من الزمان منذ دخول الاسلام الى مصر، وتجاور الجامع مع الكنيسه, فى عناق تاريخى حاول البعض النيل منه, ولكن ذكاء وفطنة وقوة الجسد المصرى الواحد كان يلفظ فيروس التفرقة البغيض الدخيل ويعود أقوى مما كان» .