انتهاء الدعاية واستعدادات مكثفة بالمحافظات.. معركة نارية في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    زكريا أبوحرام يكتب: هل يمكن التطوير بلجنة؟    ترامب يعلن موعد اللقاء المرتقب مع زهران ممداني في البيت الأبيض    إسلام الكتاتني يكتب: المتحف العظيم.. ونظريات الإخوان المنحرفة    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    بيان سعودي حول زيارة محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة    مستشار ترامب للشئون الأفريقية: أمريكا ملتزمة بإنهاء الصراع في السودان    أسامة العرابي: رواية شغف تبني ذاكرة نسائية وتستحضر إدراك الذات تاريخيًا    سفير فلسطين: الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية ثابت ولا يتغير    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    كيفية تدريب الطفل على الاستيقاظ لصلاة الفجر بسهولة ودون معاناة    فلسطين.. تعزيزات إسرائيلية إلى قباطية جنوب جنين بعد تسلل وحدة خاصة    مكايدة في صلاح أم محبة لزميله، تعليق مثير من مبابي عن "ملك إفريقيا" بعد فوز أشرف حكيمي    تضرب الوجه البحري حتى الصعيد، تحذير هام من ظاهرة تعكر 5 ساعات من صفو طقس اليوم    أول تعليق من الأمم المتحدة على زيارة نتنياهو للمنطقة العازلة في جنوب سوريا    طريقة عمل البصل البودر في المنزل بخطوات بسيطة    الجبهة الوطنية: محمد سليم ليس مرشحًا للحزب في دائرة كوم أمبو ولا أمينًا لأسوان    يحيى أبو الفتوح: منافسة بين المؤسسات للاستفادة من الذكاء الاصطناعي    إصابة 15 شخصًا.. قرارات جديدة في حادث انقلاب أتوبيس بأكتوبر    طريقة عمل الكشك المصري في المنزل    أفضل طريقة لعمل العدس الساخن في فصل الشتاء    مروة شتلة تحذر: حرمان الأطفال لاتخاذ قرارات مبكرة يضر شخصيتهم    حجز الإعلامية ميرفت سلامة بالعناية المركزة بعد تدهور حالتها الصحية    أسعار الدواجن في الأسواق المصرية.. اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    مأساة في عزبة المصاص.. وفاة طفلة نتيجة دخان حريق داخل شقة    بينهم 5 أطفال.. حبس 9 متهمين بالتبول أمام شقة طليقة أحدهم 3 أيام وغرامة 5 آلاف جنيه في الإسكندرية    خبيرة اقتصاد: تركيب «وعاء الضغط» يُترجم الحلم النووي على أرض الواقع    تراجع في أسعار اللحوم بأنواعها في الأسواق المصرية اليوم    وردة «داليا».. همسة صامتة في يوم ميلادي    مهرجان القاهرة السينمائي.. المخرج مهدي هميلي: «اغتراب» حاول التعبير عن أزمة وجودية بين الإنسان والآلة    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    ضبط صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع فيديو خادشة للحياء ببولاق الدكرور    ارتفاع جديد في أسعار الذهب اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025 داخل الأسواق المصرية    بوتين: يجب أن نعتمد على التقنيات التكنولوجية الخاصة بنا في مجالات حوكمة الدولة    إعلام سوري: اشتباكات الرقة إثر هجوم لقوات سوريا الديمقراطية على مواقع الجيش    إطلاق برامج تدريبية متخصصة لقضاة المحكمة الكنسية اللوثرية بالتعاون مع المعهد القضائي الفلسطيني    تأجيل محاكمة المطربة بوسي في اتهامها بالتهرب الضريبي ل3 ديسمبر    معتذرًا عن خوض الانتخابات.. محمد سليم يلحق ب كمال الدالي ويستقيل من الجبهة الوطنية في أسوان    "مفتاح" لا يقدر بثمن، مفاجآت بشأن هدية ترامب لكريستيانو رونالدو (صور)    ضمن مبادرة"صَحِّح مفاهيمك".. أوقاف الفيوم تنظم قوافل دعوية حول حُسن الجوار    خالد الغندور: أفشة ينتظر تحديد مستقبله مع الأهلي    دوري أبطال أفريقيا.. بعثة ريفرز النيجيري تصل القاهرة لمواجهة بيراميدز| صور    تقرير: بسبب مدربه الجديد.. برشلونة يفكر في قطع إعارة فاتي    بالأسماء| إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم ميكروباص وملاكي بأسيوط    ديلي ميل: أرسنال يراقب "مايكل إيسيان" الجديد    فتح باب حجز تذاكر مباراة الأهلي وشبيبة القبائل بدورى أبطال أفريقيا    أرسنال يكبد ريال مدريد أول خسارة في دوري أبطال أوروبا للسيدات    لربات البيوت.. يجب ارتداء جوانتى أثناء غسل الصحون لتجنب الفطريات    ماييلي: جائزة أفضل لاعب فخر لى ورسالة للشباب لمواصلة العمل الدؤوب    الذكاء الاصطناعي يمنح أفريقيا فرصة تاريخية لبناء سيادة تكنولوجية واقتصاد قائم على الابتكار    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    أمريكا: المدعون الفيدراليون يتهمون رجلا بإشعال النار في امرأة بقطار    تصل إلى 100 ألف جنيه، عقوبة خرق الصمت الانتخابي في انتخابات مجلس النواب    علي الغمراوي: نعمل لضمان وصول دواء آمن وفعال للمواطنين    أسعار الأسهم الأكثر ارتفاعًا وانخفاضًا بالبورصة المصرية قبل ختام تعاملات الأسبوع    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عريف الكتاب الذي وضع ميثاقا للتعليم
كن معلماً الإبن الكاتب عبدالتواب يحكي سيرة الوالد الشيخ يوسف..
نشر في الأهرام اليومي يوم 11 - 12 - 2015

آخر أخبار هذا الأسبوع من حياة المعلم والتعليم هذا الزمان.. مدرسة تفقأ عين تلميذ في إيتاي البارود, والشرطة تتدخل لإنقاذ مدرس تربية رياضية من بين أيدي عصابة شكلتها أم أحد التلاميذ لقيامه بضرب ابنها في بولاق الدكرور, وفي حي الزمالك الراقي معلم يعتدي بالضرب علي السيد ناظر المدرسة أمام التلاميذ.. تم إنقاذه بأعجوبة وقد كاد أن يكون قتيلا.. وهذه قراءة أخري كتبتها دكتورة كرمة سامي أستاذة الأدب في أحوال معلم وتعليم من زمن آخر كاد المعلم فيه أن يكون رسولا.
كل سيرة قابلة للحكي, جديرة بالتداول, خاصة عندما يكون عنوانها الفرعي قصة نضال وطن ومعلم خلال النصف الأول من القرن العشرين كتب عبدالتواب يوسف هذه السيرة كان أبي معلما عن والده تاركا بين يدينا مسئولية تقدير سيرة الرجل النبيل الذي أفني عمره يحمل طباشيره وقلمه الأحمر وكراساته الثقيلة وعقله المستنير. حياته هي رسالته مشوار طويل من الكفاح الحلو المر من طفولة عريف الكتاب في شنرا إلي شيخوخة مدير معهد الأيتام ببني سويف. هي سيرة الشيخ يوسف تجربة رائدة مستنيرة في مجال التعليم تستحقأن تقرأ وتدرس ليستخلص منها ميثاق للمعلم المصري.
.....................................................................
قراءة سيرته متعة من نوع خاص, تطهر القارئ وتصل به إلي درجة من السمو والتجرد من حدود الذات الضيقة للذوبان في كيان الوطن الكبير. الرجل نبيل وكذلك سيرته والابن الذي خطها بقلمه وحرص علي نقلها لنا بوعي أمين مستنير. حالة متراكبة من الحزن النبيل الراقي تجتاحنا فيما نقرأ فنسترجع أياما مجيدة في تاريخ الوطن سطرها بحياته الشيخ يوسف ليثير النص الذي كتبه ابنه الكاتب البار أطيافا من نصوص مصرية معطرة برائحة الأرض المروية أبدعها أبناء الوطن الأوفياء من معلمي الأمة الذين يتماثل حرصهم علي تلاميذهم المصريين مع حب محمد أبو سويلم لأرضه.
كان أبي معلما كتابا يقرأ مصاحبا لكتاب طه حسين مستقبل الثقافة في مصر والمرشد الأمين للبنات والبنين لرفاعة الطهطاوي فيما يتردد في خلفيته صدي قصيدة أحمد شوقي قم للمعلم, فالشيخ يوسف هو المعلم الذي يعتبر تلاميذه ودائع بين يديه, رسالته أن يرقيهم ويرتقي بهم ويجعلهم من صفوة الأمة وقادتها ومدبري أمرها.( طه حسين83) هم شركاؤه في التعلم, وغرس يديه, وأدوات جهاده الكبري. بهم يستعين علي مقاومة ذئاب المركزية, والاستعمار, والجهل, والبيروقراطية, والفقر. هنا استعير التناول المجازي للذئاب من أستاذي عبدالوهاب المسيري أحد أفضل معلمي الأمة المصرية في العصر الحديث, الذي يقف في نفس الصف الذي يتصدره في هذه الدراسة الشيخ يوسف.
يحسب هذا الكتاب ضمن أبرز ما خلفه لنا والدنا عبدالتواب يوسف من إرث إبداعي وفكري عظيم. فيما يحكي الابن سيرة الأب الذي عاش عمره معلما فالابن, بدوره, يفسر لنا دور المعلم موضحا اتساع أفق الرسالة التعلمية التعليمية في إطار ثقافي رحب يتضمن كل مشخصات مصر( طه حسين50) جغرافيتها ودينها, ولغتها العربية, وتراثها الفني والأدبي, وتاريخها, وكذلك السياسة, والفن, والأخلاق. تهذيب أبناء الامة رسالة وفن وجهاد. لذلك عندما يهدي عبدالتواب يوسف كتابه إلي كل من حمل شرف لقب معلم فإنه بذلك يجعل من كتابه الفريد صدقة جارية تهدي إلي كل من يتصدي للمشاركة في تحمل رسالة تنوير أبناء الأمة وتعليمهم وتهذيبهم بالحرف وبالكلمة واللون والنغمة والصوت والعلم والمعرفة.
وسط رموز دالة يؤسس لها عبدالتواب يوسف بإحكام ينشأ الطفل يوسف.. المسجد والكتاب ونقطة الشرطة التي أقامها الإنجليز.. أما أرض القرية فيملك خمسها أمين أغا قهوجي تقديرا من محمد علي لبراعته في تقديم القهوة له!! بأنفاس هادئة طويلة يشرح عبدالتواب يوسف آليات تلك الملحمة عبر مواقف رصدها من حياة والده الشيخ يوسف منذ أن كان طفلا. لذلك يبدأ بوصف قلب الحدث من خلال موقف درامي تاريخي بين مفتش تعليم والطفل يوسف عريف الكتاب. فيوظف هذا اللقاء توظيفا فنيا يتحول به إلي مسوغ يقدم به بطل السيرة في عنفوان تألقه الإنساني.
يصف الكاتب أيام القرية وطقوسها ويبدأ بتوثيق أصل الأسرة وعراقتها في الانتماء والتفاني في خدمة الوطن عندما يسأل مفتش التعليم الطفل النابغ يوسف عن اسمه فيردد له في ثبات اسمه كاملا طويلا: يوسف أحمد يوسف إسماعيل. مجددا بذلك صلته بجده الأكبر يوسف اسماعيل الذي حارب في جيش عرابي وحاكمه الإنجليز ثم نفوه فلم تعرف أسرته في الثري له ضريحا لكنها عاشت علي سرد بطولته تري في السرد حياة له. ما الذي أتي بمفتش التعليم إلي تلك القرية الصغيرة؟ تلك حكاية أخري جديرة بالسرد. كان وزير المعارف سعد زغلول قد أرسل المفتش لتفقد أحوال الكتاتيب واختيار النابغين من الأطفال لمكافأتهم بضمهم إلي التعليم الابتدائي متحديا السلطات البريطانية الممثلة في مستر دنلوب مستشار الوزارة.
يخرح عبدالتواب يوسف الحكاية لنا من ثنايا حكاية أخري كأننا نتحلق حوله, ونتطلع إليه بأعين تتسع دهشة مع كل خطوة جديدة نخطوها فنزداد اقترابا من الطفل يوسف, ومع تقدم السرد سنجد ألفة في نمط الحكي وتذوب بالضرورة الحواجز الفردية لنتمعن تجربة مصرية فريدة منذ مرحلة مبكرة في حياة صاحبها الذي يربط في طفولته بين المعرفة والحياة, ويعد نفسه للمقاومة بالتعليم وبالثقافة ليصبح بعد سنوات معلما يتحدي العولمة بشكلها النمطي والمتغير وليتجنب خوض معارك وهمية أو لا قبل له أو لأمته بها قد تبدد طاقته التي ينذرها لدعم مناعة تلاميذه الوطنية والمعرفية.
يبكي الطفل يوسف عندما يري الحمام المحشو لأنه يذكره بحمام دنشواي( حكاية ثانية), ويبتسم عندما يقرأ له سيدنا خبر طرد اللورد كرومر من مصر في جريدة الشعب لأمين الرافعي( حكاية ثالثة), ويضحك لحيلة قريبه الذي يتحدي السلطة ويغني أغنية يا ميت فل علي الورداني الممنوعة وقتئذ لأنها تمجد المصري الذي تسبب في قتل مشروع مد امتياز شركة قناة السويس.(29-31) فيغني قريبه اسم الورداني ممطوطا متوقفا بعد المقطع الأول من الاسم لتصبح الأغنية يا ميت فل علي الورد!!( حكاية رابعة).
يكبر الطفل ويصبح شيخا صغيرا معمما حافظا للقرآن, يرحل من قريته إلي مدينة بني سويف ليدرس في دار المعلمين وهدفه أن يكون عالما ومعلما, وتخرج القرية لتودعه مثلما خرجت من قبل في1882 لوداع أبنائها الذين انضموا إلي جيش عرابي. يدرس الشيخ يوسف ويقرأ القرآن في بيوت الموسرين ويعد الأطفال للالتحاق بالمدارس الأولية وينشغل بأحوال البلاد ويقرأ جميع الصحف, موزع اللب بين وطنه, ودرسه, وعمله, وحياته.(47)
يعلم الشيخ يوسف بفطرته أن علمه ليس كافيا.. لابد أن يكون إنسانا حضاريا بكل معاني الكلمة(51), هكذا يعد نفسه لكي يكون معلما وفق تعريف عميد الأدب العربي: وكيل الشعب وأمينه علي تكوين الشباب.( طه حسين108) في هذه اللحظة الفارقة في حياة الشيخ يوسف وفي سيرته يوقن أن المعلم ليس ملقنا, بل هو في المقام الأول قائد اجتماعي وموجه إنساني ومشارك في رسالة جليلة, لأنها تدخل في باب النمو الحضاري والتقدم الاجتماعي والتطور الثقافي.(51) يتملك الشيخ يوسف هدف حلم توظيف القوي الناعمة المتمثلة في التعليم للنهوض بأبناء الوطن متشابها في ذلك مع فكر الشاعر والناقد والمعلم الإنجليزي ماثيو آرنولد(1822-1888) الذي لم يقرأ أعماله الشيخ يوسف ولم يكن بحاجة لأن يقرأها ليتعلم منها لكنه بفطرته يشاركه الرأي في واجب المعلم المثقف الفنان في الارتقاء بأبناء وطنه خلقا وعلما حتي يصل بهم إلي الكمال.
تتطور سيرة الشيخ يوسف بعد حصوله علي شهادة المعلمين إلي رحلة تهذيب للنفس وتأهيل لدور مجتمعي وطني يعي فيها المعلم الشاب بفطرته أن التعليم تهذيب وليس تعذيبا. وكذلك أن العملية التعلمية ليس الهدف منها هو أداء الواجب المدرسي والنجاح في الامتحان, من هذا المنطلق تتكون طبيعة رسالته تجاه مجتمع المدرسة فيعد دروسه ويشجع طلابه علي الحركة والمناقشة فهم ليسوا خشبا مسندة إلي خشب.(55) ومن ثم يقترح علي الناظرقبل أول حصة له أن يجلس التلاميذ علي شكل دائرة أو حدوة حصان. بل ليتنا نأخذهم لدروس في الحقول والنخيل.(55) بهذا الاقتراح الليبرالي الرائد في التعليم يتماثل فكر المعلم الشاب الشيخ يوسف ابن قرية الصعيد البائسة ونهج شاعر الهند الكبير رابندرانات الحائز علي نوبل في الآداب عام1913 وذلك تحديدا في ازالة الحواجز الفاصلة بين الفصل الدراسي والحياة.
لم يكتف طاغور بما قدمه للهند وللمجتمع العالمي من ابداع بل استثمر القيمة المادية لجائزة نوبل في انشاء مشاريع تعليمية أبرزها مدرسة لأبناء الفقراء وسط الطبيعة. في1921 أي بعد الفترة الزمنية التي بدأ فيها الشيخ يوسف مشواره التربوي مطبقا فكره الجديد أسس طاغور مدرسته النموذجية التي تنبض فيها العملية التعليمية بألوان الحياة, تنشغل بها ولا تنفصل عنها. يتمتع فيها التلاميذ من أبناء عامة الشعب- وليس الصفوة- بتعليم يخلو من التعذيب, وينعمون برهافة لا تحاصرها الرتابة, ويكتسبون ذائقة لا يكبلها الروتين... يتألف فيها اليوم الدراسي من حركة دائبة وأنشطة مبهجة يوظف فيها التلميذ حواسه الخمس في تعلم الطبيعة حوله ودراستها.
كذلك كان فكر الشيخ يوسف الذي لم يكتف باصبع الطباشير وتصحيح كراسات التلاميذ فقد كشف مبكرا عن نيته في تجديد الخطاب التعلميوكذلك في تجديد مفاهيم عديدة ترتبط ارتباطا وثيقا بالعملية التعلمية وبالتالي عن عزمه علي بدء مشروع ثقافي تعلمي يتبادل فيه المعلم والمتعلم الخبرات, وكذلك في اطلاق مشروع التعلم بالتجربة المباشرة المستمدة من المفردات الثقافية للبيئة المحيطة بتلاميذه. ما يلي من وحدات سردية كتبها عبدالتواب يوسف من سيرة والده- الذي ينفصل عنه عن عمد بيولوجيا ووجدانيا ليقدمه بعين العقل- يجسد لنا تجربة رائدة في الفكر التربوي وتطبيقاته في بدايات القرن العشرين, ودليلا حيا وتجربة عملية علي مسببات نجاح العملية التعليمية بواسطة أقل الامكانات وأبسط الوسائل: معلم, ومتعلم( يتبادلان الأدوار إذا لزم الأمر), ومكان. هكذا يصبح الفصل الدراسي البسيط في قلب الصعيد الفقير هو البيئة المثالية لعملية تعلمية ناجحة يتخرج فيها علي يدي الشيخ يوسف الأدباء والفنانون والأطباء والمهندسون والعلماء متساوين مع أقرانهم ممن تعلموا في تجارب تربوية مماثلة في الهند وإنجلترا وأمريكا والبرازيل.
بهذا الفكر المتطور الذي يروج له الآن كبار المنظرين التربويين بدأ الشيخ يوسف حياته معلما عظيما(54), لهذا يرتفع عبدالتواب يوسف في شاعرية وصفه بالمعلم إلي مصاف الأنبياء, فهو في ثراء طبقات الأرض وفيضان مياه النيل.. يقبل هذا المعلم علي حياة سيجعلها: خصبة.. دسمة.. واسعة.. عريضة.. عميقة.. سامقة.. شاملة.. متجددة.. متعددة.. ملونة.. مضاءة.. منغمة.. معطرة..(55)
بدأ الشيخ يوسف عمله/رسالته يوم7 أكتوبر1917, وبأدوات تبدو بسيطة وإمكانات قليلة بدأ الشيخ يوسف ممارسة مهنة يري فيها كل المهن.(55) لا يحمل عصا مثل زملائه من المعلمين ليرهب بها التلاميذ الحفاة( نعم.. هكذا وصفهم عبدالتواب يوسف بكل شفافية) في فناء المدرسة الصغيرة, وعندما أمرهم الناظر أن يهتفوا للسلطان فؤاد الأول أوعز إليهم الشيخ يوسف بالهتاف: عاشت مصر حرة مستقلة.(57) كما يسوق عبدالتواب يوسف دليلا آخر لكنه عاطفي يؤكد إعلاء الأب من قيمة عمله كمعلموهو اطلاقه اسم أول تلميذ له في مسيرته كمعلم علي أكبر أبنائه: عبدالتواب, لا عجب أن تؤتي الشجرة الطيبة ثمارا طيبة ويستكمل الابن مسيرة الأب في تعليم أبناء الأمة وتهذيبهم.
تنوعت أساليب الشيخ يوسف في التدريس في الابتكار الكيفي وكذلك في التنوع بين التعلم الفردي والجماعي في الفصل الدراسي. تألق الشيخ يوسف في الحصة, واستطاب الأولاد حكاياته(57) المستمدة من القرآن الكريم ومن تاريخ مصر القديم والمعاصر وزعمائها القوميين وبهرهم ب لعبة الأسماء(58) حيث يحكي لهم السر وراء كل اسم من أسمائهم, ولاعبهم ب اختبارات طريفة للذاكرة, ووزع عليهم الحلوي, واستمع أيضا إلي ما لديهم من حكايات, بل وعلمهم أهمية قطعة الصابون التي يغسلون بها وجوههم أمام المضخة قبل طابور الثامنة صباحا.
تمثل الفكر التربوي للشيخ يوسف في تنمية الخيال والإحساس, وتوظيف العقل والقلب الحواس الخمس للبحث عن المعرفة واكتسابها عن جدارة, لهذا سمح لتلاميذه بالغناء في الحصة واستضاف في الفصل أحد أولياء الأمور من الفلاحين البسطاء ليغني لهم أغنية ريفية بسيطة, وفسر لهم المعاني الرمزية الوطنية الخافية في الأغاني الشعبية, وخلع عمته وجبته وقفطانه ووقف بجلبابه البسيط حاملا فأسه ليزرع حديقة معهد الأيتام الذي تولي إدارته يوما ما, بل وأرسلهم إلي زوجه لتداويهم وترعاهم صحيا حتي لا يعوق المرض اكتسابهم للعلم علي يديه. لا تقتصر بذلك مهمته علي التعليم بل تبدأ ب التربية وذلك بتكريسه جهده للتغلب علي المشكلات النفسية والاجتماعية والأخلاقية والصحية التي يعاني منها تلاميذه حتي يصل بعملية التعلم إلي تحقيق أقصي النتائج.ولم يستأثر المعلم الشاب بالسلطة المخولة له بل سمح للتلاميذ بالكتابة علي السبورة والمفترض أنهاملك خاص للمعلم(60), اكتشف الشاب الصعيدي البسيط في أوائل القرن العشرين بفطرته السليمة جوهر العملية التعليمية وأهم نظرياتها:لقد تعلم المعلم الشاب من تلاميذه.(60)
توصل الشيخ يوسف إلي القاعدتين الذهبيتين في العملية التعلمية وهي تحفيز التلاميذ لاكتشاف سلاحيالعقل الفعال والارادة الفاعلة. وسرعان ما تحول المنهج إلي معلومات عامة والامتحان إلي امتحان حياة. اختفي سلاح السلطة في الفصل الدراسي وشاع جو من المرح والمحبة. وتمثل اعتزاز التلميذ المصري بكرامته وغيرته علي وطنه وحبه للمعرفة في ما يحبه المعلم الشيخ يوسف وما يكرهه, وما يسعده وما يحزنه, حتي تصبح أحوال المعلم مؤشرا يقود التلميذ إلي صحيح الادراك والفهم فيما يتعلق بالمعرفة داخل الفصل وخارجه بل خارج حدود المدرسة والقطر المصري أحيانا.
ومع تدفق المعلومات العامة في الفصل وتبادلها بين المعلم الشاب والتلاميذ في جو من المرح انتقلت إليهم تدريجيا اهتمامات المعلم بأحوال مصر ومستقبلها. حزن الطلاب مع معلمهم عندما أخبرهم عن الرجل الإنجليزي بلفور الذي وعد اليهود بأرض فلسطين, وعن تنازل الحكومة عن ديون الحرب المستحقة لها لدي بريطانيا. هكذا مع تداخل العام والخاص وانطلاق المعلم في تطبيق أساليبه التعلمية الابتكارية أصبح كل يوم دراسي عنده له شكله الخاص به, ومخلوق جديد يولد مع دقات الجرس في كل حصة.. كان فنانا, خلاقا. كل حصة هي قصة: لها البداية والعقدة والحل والنهاية السعيدة دائما. كل حصة فيلم تتوالي صوره, وشخوصه, وأحداثه, متحركة نابضة بالحياة والحركة.(66)
قاتل الله الجمود عدو العملية التعليمية المزمن في مصر!! هنا تضاف إلي قيمة السيرة السردية قيمة أخري تربوية إذ أنها تعرض لنا عن قرب تفاصيل تجربة عملية طبقها معلم مصري شاب في قري الصعيد بداية من العقد الثاني من القرن العشرين تتعدد فيها الأشكال الفنية التي يوظفها المعلم في الفصل, وتتنوع أدواره فهو المخرج والمايسترو والمدرب, التعليم لديه لعبة وفن وهواية وسحر خاص له جاذبية مستدامة تستمر بتدفق المعلومات التي ترحل بالتلاميذ مأخوذين إلي عوالم معرفية آسرة. وهو الممثل القدير علي خشبة المسرح الذي عندما ينتهي من اندماجه في مناجاته( شرح درس من تاريخ مصر) وقد نسي الوجود, ومس شغاف قلوب الأولاد, فإذا به يصحو علي تصفيق عال مدو منهم, تطلع إليهم علي أثره يتساءل: لماذا يصفقون, ولمن؟!(67)
تقدم لنا هذه السيرة الفريدة في نوعها بيانا تفصيليا بدور المعلم في الحفاظ علي الهوية الثقافية العربية والمصرية لتلاميذه بما يترتب عليه من تغيير للخطط التدريسية والخروج من الإطار النمطي لمفهوم المنهج والحصة والتغيير السريع للمحتوي وفقا لتغير الموقف داخل الفصل الدراسي أو خارجه. هل نحكي عن جمعه لعشرات التوكيلات للوفد المصري والساعات التي قضاها لعرض الأمر علي البسطاء واقناعهم بالتوقيع رفضا لاحتلال انجلترا لمصر؟ أم عن تحويل المدرسة إلي ندوة وطنية؟ وموضوعات الإملاء التي خرجت عن المنهج ودارت حول سعد زغلول ورفاقه؟ أم عن تأثر المجتمع داخل المدرسة وخارجها بالمعلم الشاب ووطنيته؟
بل هل نعود إلي المربع الأول لنسأل لماذا كتب عبدالتواب يوسف سيرة والده ليقدمها للقاريء المصري والعربي وهو الذي يكفيه أنه أثري المكتبة العربية بالمئات من كتب الأطفال؟ هل كان عبدالتواب يوسف في سرده لرسالة والده التربوية تجاه أبناء الأمة يستكمل بهذا السرد رسالته هو الثقافية؟ تتوالي الإجابات تلقائيا مع تصاعد أسلوب الكاتب السلس دراميا واصفا انصهار طبقات الشعب في لحظة تاريخية فريدة لا يؤرخ فيها لسيرة والده وبطولته فحسب وإنما لثورة1919- التي لم نعهد لها وصفا من قلب الحدث من قبل مثلما وصفت في هذه السيرة- واندماج المسيرتين التلقائي في مسيرة واحدة؟
خمس صفحات في سيرة الشيخ يوسف وتحديدا من ص70 إلي ص75 تدخل كاتبها التاريخ من أوسع أبوابه يشرح فيها كيف اشتعلت ثورة1919 ثم خمدت, تبدأ بشرارة في فصل ثم تمتد إلي كل الفصول بمدارس مصر ويتصاعد لهيبها في الشوارع لكنها تتحول إلي رماد مع تربص المتربصين بها. لكن قرار فصل المعلم الشاب عقابا له علي نشاطه الثوري ثم السماح له بالعودة إلي وظيفته يزيد من عزمه الوطني التعلمي وهدفه في اعتبارهما كيانا واحدا غير قابل للفصل, فيعود إلي سابق عهده ليجعل من الإفراج عن سعد وهزيمة لجنة ملنر وإلغاء الحماية مادة حية لحصة التاريخ ناصحا تلاميذه: يا أبنائي احفظوا هذه التواريخ, لا لتنجحوا في الامتحان, بل لتنجحوا في الحياة!(77)
تتحول السيرة إلي سلسلة من ردود الأفعال المقاومة لقرارات إدارية معظمها تعسفي, فصل وإيقاف عن العمل وتحويل للتحقيق ونقل إلي مدرسة أخري, كلها محاولات تتضاءل أمام عزيمة معلم شاب يكبر تدريجيا ليصبح أكبر من دوره, أو يعمل علي توسيع رقعة دوره بل ليصبح هو كاتب النص ومحركه الأول. لذا عندما أصبح ناظرا لم يتوقف عن التدريس بل نقل فكره إلي المدرسين بالمدرسة الذي تلخص ببساطة في الابتكار ونقل الحياة خارج المدرسة إلي داخلها.(91)
استبدل الشيخ يوسف النضال غير التقليدي بالنضال التقليدي, وعندما أصبح مديرا لمعهد للأيتام فقد كانت تلك أيامه الذهبية التي التي لم يكتف فيها برسالته كمعلم بل أضاف إليها ما يمكن أن يسمي ب إرادة الإدارة التي تتجسد عندما تتكون عندما يكون الإداري معلما مثقفا تكونت لديه عقيدة واعية تلهمه الصواب في اتخاذ القرار وتنفيذه. إزداد المعلم صلابة فتوالت المعجزات علي يديه رغم ضعف الميزانية, عادت لحديقة المعهد نضارتها بضربات فأسه, شبع الأيتام بعد جوع لسنوات, كست الملابس الجديدة أجسادهم النحيلة, عادت فرقة المعهد الموسيقية لتعزف في كشك الحديقة في ميدان المديرية ولكنها بقرار من مدير المعهد الشيخ يوسف لا تعزف إلا موسيقي بلادها كما لم يوافق أن تعزف فرقة المعهد الموسيقية احتفالا بجلاء الإنجليز عن القاهرة والإسكندرية وأعلن لا احتفال إلا بعد الجلاء عن كل تراب الوطن.(107)
المعلم المصري الجميل!
الشيخ يوسف هو المثقف العضوي الحق دون شعارات أو دعاية. لم ينتم الشيخ يوسف إلي أحزاب دينية أو سياسية ونأي بنفسه عن الانشغال عن رسالته كمعلم بمنظومة حزبية أو أيديولوجية مضيعة للوقت والجهد. وإنما اكتفي بالانتماء لمصر والفخر بهذا الشعور والدفاع عنه. مثقف حر يفعل( بضم الياء وتشديد الفاء وكسر العين) الحركة الجماهيرية ويتفاعل معها, نموذج مصري في الانتماء التطبيقي وليس النظري, الذي يطبق الشعار ولا يكتفي برفعه, ولعل نجاحه في جمع العشرات من توقيعات المواطنين دعما للوفد المصري وخروج أبناء القري التي يعلم أبناءها لوداعه عند نقله إلي مدرسة أخري خير دليل علي سلامة فطرته السياسية ونجاح فكره التعلمي الحر.
وهب الله الشيخ يوسف ولدا صالحا يدعو له بالكتابة عنه. فرزقه بالابن الذي يكتب سيرته العطرة فينثر عطرها علي أجيال عديدة في مستقبل الوطن. ألحت سيرة الشيخ يوسف علي ابنه عبدالتواب لكي يسجلها, لعلها تفرش بالنور طريق كل من اختار هذه المهنة النبيلة: التعليم.(112) لكنها في واقع الأمر لا تلهم من اختار سلك التعليم فحسب وإنما كل من أراد نفع أبناء الوطن.
ترك لنا عبدالتواب يوسف سيرة والده ميثاقا لشرف المواطنة. أن يكون هذا الكتاب بين يدي كل معلم وتلميذ مصري وأن يقرأ في كل مدرسة مصرية فهذه هي البداية الحقيقية لقراءة نماذج وطنية ناصعة في تاريخ مصر ودراستها والاقتداء بها كي نتعلم كيف نصدر الفكر ولا نستورده؟ كيف نثق في جودة قدراتنا المحلية وبديمومتها المتمثلة في سيرة معلم مصري من الجنوب لا يقل فكره التربوي عن فكر فلاسفة التعليم في العالم مثل طاغور الهندي وآرنولد الإنجليزي وديوي الأمريكي وفيريري البرازيلي؟ كيف نكون معلمين مصريين؟
............................
يختتم عبدالتواب يوسف سيرة والده بعذوبة شديدة واصفا رحلة الشيخ يوسف الأخيرة التي رافقه فيها موكب طويل من الأطفال والرجال والنساء.. أجيال من تلاميذه يبكونه, كانت الورود التي تغطي نعشه من ضربات فأسه وغرس يديه في حديقة معهد الأيتام.(110) يلهمنا هذا المشهد الختامي أن نسترجع مشهدا آخر تكرر في سيرة الشيخ يوسف عندما كان ينتهي عمله في مدرسة ما فينقل إلي مدرسة أخري وكانت القرية بما بها من تلاميذ وأولياء أمور تقف لتوديعه فيسأل: ماذا صنعت لهؤلاء الناس لكي يفعلوا كل هذا؟ ليكون رده: لا شيء.. أديت الواجب.. علمت الصغار.. أحببت الكبار.. لا شيء أكثر من ذلك..(90)
ذلك هو فصل الخطاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.