اعتاد قبل استخلافه أن يُضمِّخ ثيابه بأغلى العطور، ويقطن أعلى القصور، ويلبس أبهى الحُلل، ويأكل أطيب الطعام، ويركب الصافنات الجياد، ويبلغ دخله السنوي أربعين ألف دينار.. وبعد استخلافه بدقائق حمل كل ثروته إلى بيت المال، وتحول عن قصوره الفارهة إلى دار متواضعة من الطين.. إنه "عمر بن عبدالعزيز"، رضي الله تعالى عنه. تروي زوجته "فاطمة بنت عبد الملك" هذه الرائعة: "دخلتُ عليه يوما، وهو جالس في مصلاه، واضعا خده على يده، ودموعه تسيل.. فقلت له: ما بالك، وفيم بكاؤك؟ قال: "ويحك يا فاطمة.. إني قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت.. ففكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، والأرملة الوحيدة، واليتيم المكسور، والرزق القليل، وأشباههم في أقطار الأرض، وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم يومئذ محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت ألا تثبت لي حجة؛ فلذلك أبكي". أرأيتَ إلى أي مدى يشعر - رضي الله عنه - بمسؤوليته عن الأمة والناس أجمعين؟ إن قلبه الورع الزكي الكبير، مع كل فرد من أمته: مع كل يتيم، وشيخ، وأرملة، وفقير، ومريض، ومجهود.. مع كل مظلوم، وأسير، ومقهور.. كل هؤلاء وأولئك قابعون في ضميره، يجلجلون بحاجاتهم، ويجأرون بشكاواهم، وينتظرونه - كما يتصور - ليخاصموه يوم القيامة أمام الله رب العالمين، حيث لا ينجيه منهم غدا، إلا ما يبدله لهم اليوم من حق، وعدل، وخير، وبر. من هذه الصورة السريعة لوضوح مسئوليته في عقله وقلبه، ننتقل إلى صورة أخرى سريعة، ترينا استغراقه في هذه المسئولية، وفناءه فيها؛ حتى لم يعد يذكر سوى مسئوليته الفادحة، وسيطرت على شعوره وفكره صورة واحدة.. تلك هي صورة موقفه بين يدي الله سبحانه وتعالى، يسأله عن كل شعيرة من دينه، وكل فرد من عباده. تقول فاطمة: "كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاضة العصفور من شدة الخوف، حتى أقول: "ليصبحن الناس، ولا خليفة لهم".. ويقول على بن زيد: "كان يبدو، كأن النار لم تخلق إلا له". إن المضمون الإلهي للمسئولية دفع استغراقه إلى أعلى قيعان المسئولية، وأبعادها. تقول فاطمة، وقد سئُلت عن عبادته: "والله ما كان بأكثر الناس صلاة، ولا أكثرهم صياما.. ولكني، والله ما رأيت أحدا أخوف لله منه". إنها مخاوف مسئول يرى الله، سبحانه وتعالى، قد ائتمنه على الدين والدنيا، على الناس، والزرع، والأنعام.. إلخ. في موقف آخر يسحب له خادمه بِرذَونه (دابته)، فيسأله: كيف حال الناس؟ فيجيبه: "كل الناس في راحة.. إلا أنت، وأنا، وهذا البِرذَون"! [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد