بعيدا عن عاصفة الجدل التى اثارتها زيارة البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية إلى القدس عبر تل ابيب - للصلاة على الأنبا إبراهام مطران القدس والشرق الأدنى، وبغض النظر عما يمثله ذلك من خرق لقرار المجمع المقدس وموقف الكنيسة الثابت منذ عهد البابا شنودة الثالث بعدم السماح للأقباط بزيارة القدس تحت الاحتلال، فإن هناك عدة ملاحظات مهمة ينبغى التنبه لها لكشف محاولات هواة الاصطياد فى الماء العكر من مؤيدى التطبيع مع الصهاينة، لاستغلال هذه الزيارة فى الترويج للتطبيع. لقد كان البابا تواضروس الثانى حاسما فى تصريحاته التى أكد فيها أن موقف الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بشأن عدم الذهاب للقدس قبل حل القضية الفلسطينية ثابت ولم يتغير، وهو عدم دخول القدس إلا مع إخوتنا المصريين المسلمين جميعا، وأنه لن يدخل الأراضى الفلسطينية زائرًا إلا بصحبة شيخ الأزهر. وبعيدا عن الجانب الدينى فى الموضوع، وتحفظنا على هذه الزيارة وكذلك زيارة الدكتور على جمعة المماثلة، فإن هناك بعض الملابسات المهمة فى قضية سفر المصريين إلى القدس والأراضى الفلسطينية بشكل عام ينبغى كشفها لفضح أكاذيب مؤيدى التطبيع. فليس صحيحا أن كل الفلسطينيين يشجعون المصريين على الذهاب إلى القدس، فهذه الدعوة يتبناها فقط جناح معروف فى السلطة الفلسطينية، بينما تلقى معارضة شعبية واسعة من معظم الفلسطينيين، وفى شهر فبراير الماضى عندما ذهب الشاعر هشام الجخ إلى الأراضى الفلسطينية، أصدر عشرات الشباب والمثقفين الفلسطينيين بيانات يرفضون فيها الزيارة واعتبروها تطبيعا مع الجانب الإسرائيلى، موضحين أن العروض الفنية فى الوطن العربى أمر مختلف عن الأراضى الفلسطينية فى المعايير التى وضعتها الحملات العربية المناهضة للتطبيع مع إسرائيل. وقالت بيانات المثقفين الفلسطينيين: لسنا ضد التواصل الثقافى بين الشعب الفلسطينى والشعوب العربية، ولكننا لسنا معنيين بتواصل مشروط بإذن الاحتلال وفى ظل الاستعمار الصهيونى الذى شئنا أم أبينا، سيحدد لنا أى ثقافة مسموح لنا أن نستهلكها وأيها لا، تماما كما يسيطر على كل مناحى حياتنا بحكم استعماره. كما سبق أن كشف عديد من المفكرين المقدسيين أنّ المستفيد اقتصاديّاً من زيارة العرب للقدس هو الاحتلال الصهيونى، وذكرت صحيفة «هاآرتس» العبريّة فى إبريل الماضى أنّ االسياحة فى القدس تضرّرت فى عام 2014، حيث انخفضت 20% نسبة عدد ليالى المبيت داخل الفنادق، وكان يمكن للوضع أن يكون أسوأ بكثير لولا النمو الهائل فى نسبة السيّاح من دول إسلاميّة، والّذى يقدّر عددهم بعشرات الآلاف. وهو ما دعا الكاتب والمحلّل المقدسيّ راسم عبيدات إلى القول إن المستفيد الأوّل من هذه الزيارات هو الاحتلال، وينعكس ذلك على اقتصاده، إذ هو الّذى يملك البنية التحتيّة والفنادق والمطاعم والمواصلات داخل المدينة، إلى جانب أن هذه الزيارات تعمل على تجميل صورة الاحتلال والاعتراف بشرعيّته وسيادته على المدينة، وإظهاره فى صورة ديمقراطيّة متسامحة مع الحريّات الدينيّة، بينما فى الحقيقة يمنع أهل القدس من الوصول إلى الأقصى، ويمارس التّهويد الممنهج فى المدينة لتحويلها إلى مدينة يهوديّة. وعلى المستوى السياسى، فإن القدس تعتبر تحت السيادة المطلقة لدولة إسرائيل، وتخضع للقانون الإسرائيلى الذى يلزم أى زائر بالحصول على تأشيرة دخول أو إذن مسبق. وحتى الذين يذهبون عن طريق الأردن ومعبر الكرامة أو جسر الملك حسين بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، فإن اتفاقيات أوسلو تعطى للسلطة إشرافا جزئيا على المعبر بينما يتبقى الإشراف الكامل للحكومة الإسرائيلية التى من حقها الحصول على بيانات المسافرين مسبقا والموافقة عليها أو رفضها وتفتيش أمتعتهم، بل والتحقيق معهم. وتطبق سلطات الاحتلال سياسة المنع الكامل على دخول رموز السلطة الفلسطينية الى مدينة القدس بما فيهم رئيس السلطة محمود عباس، وتعتقل من يدخل دون اذنها وتقوم باعادته للضفة الغربية، وترفض أى مظهر من مظاهر الوجود الفلسطينى الرسمى فى القدس، وقد سبق أن منعت سلطات الاحتلال زوجة الرئيس محمود عباس من دخول القدس مع والدة الرئيس الشيشاني، وبعدها منعت القيادى بالسلطة الفلسطينية عباس زكى من زيارة حفيدته فى مستشفى هداسا، بل إن معظم أهالى الضفة الغربية أنفسهم ممنوعون من الصلاة فى المسجد الأقصى. لقد فضحنا بالتفصيل الأهداف الإسرائيلية من تشجيع بعض العرب على زيارة القدس تحت الاحتلال، عندما خالف ثلاثة من أعضاء مجلس نقابة الصحفيين السابق قرارات الجمعية العمومية للنقابة ودخلوا إلى القدسالمحتلة، وكشفنا خرافة أنه يمكن السفر إلى هناك دون موافقة سلطات الإحتلال الإسرائيلى، والغريب أن ذلك تم بتشجيع من نفس الجناح المعروف فى السلطة الفلسطينية. إن هناك عشرات الطرق التى يمكن بها دعم صمود الشعب الفلسطينى فى القدس دون الدخول فى متاهة التطبيع ودعم الاقتصاد الإسرائيلى، ويكفى أن نعلم أن الدعم المالى الذى قررته القمم العربية المتتالية للقدس لم يصل ربعه إلى المقدسيين خلال السنوات الماضية، وتخلت النقابات المهنية العربية وخاصة نقابات الرأى عن دورها القومى فى تعريف الرأى العام العربى والعالمى بحقائق الأوضاع فى القدس لإيجاد رأى عام ضاغط لإنقاذ المدينة المقدسة، ورغم ذلك مازالت محاولات التطبيع مستمرة. كلمات: هناك أموات لم تمت كلماتهم، وهناك أحياء لم نسمع لهم صوتا نجيب محفوظ لمزيد من مقالات فتحي محمود