تشهد العاصمة السورية منذ منتصف عام2008 وحتي الآن, تجليات انفتاح غربي وأمريكي علي سوريا, متمثلا في وفود سياسية وبرلمانية. وايضا مبعوثين حكوميين ورؤساء دول وحكومات ووزراء خارجية, بعد فترة توتر علي خلفية سياسات الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة جورج بوش, وفي القلب منها محاولة فرض عزلة دولية وإقليمية علي سوريا, حيث لا يكاد يمر أسبوع الآن دون حضور غربي وأوروبي وأمريكي مكثف. ولعل تفسير ذلك يكمن في تصريح مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية وسفيرها السابق في بيروت جيفري فيلتمان بأن السياسة الأمريكية في لبنان انهزمت أمام السياسة السورية, وانتهت بعزلة السياسة الأمريكية بعدما كان الهدف هو عزل سوريا في إطار ممارسة الضغوط عليها لدفعها نحو تغيير سياستها وتوجهاتها. فالسياسة السورية تتسم بالصبر, والثقة بالنفس, وبالاطمئنان إلي سلامة توجهاتها الوطنية والإقليمية, وبالاستعداد والقدرة علي تحمل الضغوط, وببعد النظر, فقد انتهت السنوات العجاف( منذ اتفاق الرئيسين السابقين الفرنسي جاك شيراك والأمريكي جورج بوش في النورماندي, علي بدء حملة ضغوط علي سوريا تبدأ بإصدار القرار الدولي1559 بخروجها من لبنان) بهذا الانفتاح عليها دون تقديم تنازلات, وبمصالحة سعودية, وتقارب مصري, وبفتح كل من الزعيمين اللبنانيين رئيس الحكومة سعد الحريري والدرزي وليد جنبلاط صفحة جديدة في العلاقة معها, وبغلق صفحة اتهامها باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري, وتهديدها بإسقاط نظامها الحاكم علي غرار ما حدث في العراق عام2003, وجر رموزها إلي المحكمة الدولية, وبطلب أمريكي من سوريا بالمساعدة في إحلال الاستقرار بالعراق, وفي تنفيذ انسحاب أمريكي آمن من العراق!.. بل وبدعوة أمريكية للبنان ب التعاون مع سوريا, وبتشجيع الحريري الابن( سعد) علي الانفتاح علي سوريا. فما من ملف إقليمي تتعامل الولاياتالمتحدة وأوروبا معه إلا وبات البحث فيه والتعامل معه يمر عبر بوابة دمشق, فبعد فيلتمان أعلن السفير الأمريكي الجديد لدي سوريا روبرت فورد الأول منذ خمس سنوات منذ سحب واشنطن سفيرتها بدمشق مارجريت سكوبي سفيرتها الحالية بالقاهرة أن أوباما يرغب في حوار مستمر مع سوريا, لأن في ذلك مصالحنا القومية, ويقربنا من تحقيق أهدافنا, واصفا انخراط بلاده في الحوار مع سوريا الاستثمار طويل الأمد. ويضيف فورد: علينا أن نكون واقعيين.. هناك أهداف مشتركة مع سوريا, فالبلدان يريدان سلاما عادلا وشاملا في الشرق الأوسط, وعراقا مستقرا وآمنا وسيادة لبنان, والمسألة تتعلق بخطوات للتنفيذ.. سأبقي علي اتصال يومي وأسبوعي مع المسئولين السوريين الذين لديهم قدرة ونفوز علي صنع القرار, معترفا ضمنيا بالنجاح الذي حققته السياسة السورية, قائلا: العلاقات تحسنت بين السعودية وسوريا وعادت العلاقات بين لبنان وسوريا, بل ذهب فورد إلي حد نصح الحكومة اللبنانية بالتعاون مع سوريا, معربا عن أمله في أن تفتح زيارة الحريري المقبلة لسوريا عهدا جديدا في العلاقات بين البلدين, وذلك بالتزامن مع تصريحات فرنسية وبريطانية حول دور سوريا في تحقيق الاستقرار بالمنطقة وأهميته. النجاح هنا والفشل هناك وفي مواقع أخري بالمنطقة ثبت أن رهاناتها خاسرة يدفع سوريا إلي التمسك بدعم خيار المقاومة إلي جانب خيار السلام والمفاوضات, إن خلصت النوايا الإسرائيلية, وإلي العمل علي بناء موقف عربي موحد في هذه الآونة لا غني فيه عن مصر في مواجهة تصاعد التطرف الإسرائيلي, ربما يساعد ذلك إدارة الرئيس باراك أوباما في مواجهة التعنت الإسرائيلي, وقبل ذلك يخدم المصالح العربية, فإذا كانت الولاياتالمتحدة شعرت بالإهانة علي حد تعبير وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون من قرار بناء مستوطنات في القدسالمحتلة خلال زيارة نائب الرئيس جوزيف بايدن لإسرائيل, فبماذا يشعر العرب إزاء ممارسات إسرائيل منذ1948 وحتي الآن؟.. فالإهانة الإسرائيلية للعرب تبلغ حد الإذلال, فهي كل يوم وفي السر والعلانية وبالصوت والصورة وعلي الفضائيات وفي الغرف المغلقة. وسط هذه التطورات, يشيع تفاؤل في العاصمة السورية بقرب تحقيق المصالحة العربية عموما, والمصالحة المصرية السورية خصوصا, فتصريحات المسئولين السوريين في الأسابيع الأخيرة تتحدث عن أهمية العلاقات وأهمية مصر في العمل العربي المشترك, والعلاقات الاستراتيجية, وضرورة فتح صفحة جديدة بين القاهرةودمشق, في المرحلة المقبلة إزاء ممارسات إسرائيل حاسمة بالنسبة لمستقبل المنطقة وأمن بلدانها العربية واستقرارها, كما بدت هناك حديث صريح عن ضرورة عدم تجاوز مصر في قضية قطاع غزة, مثلما يجب احترام خصوصية العلاقة بين سوريا ولبنان, وسط تغييرات ولو بسيطة في الموقف الإيراني في العراق لجهة تأكيد هويته العربية. وعكست تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد أخيرا حول العلاقات مع مصر واستراتيجيتها واستعداده لزيارة مصر للقاء الرئيس حسني مبارك.. هذا التفاؤل في الشارع الدمشقي منذ الزيارة التي قام بها المهندس رشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة لسوريا في شهر مارس الماضي, والتي قوبلت بحفاوة سياسية وإعلامية بالغة.. فقد وصفها رئيس الوزراء محمد ناجي عطري بأنها تشكل بداية مرحلة جديدة من العلاقات لإحداث نقلة نوعية نتطلع إليها, ووصفها نائبه عبدالله الدردري بأنها تاريخية, بينما اعتبرتها وزيرة الاقتصاد والتجارة لمياء عاصي مرحلة تعيد الاعتبار للجغرافيا السياسية بحكم موقع البلدين الاستراتيجي.. ولامست عاصي السياسة بتأكيدها أن تطوير العلاقة مع مصر محسوم من جانب القيادة السورية حتي لو تبدت بعض الغيوم. ويتوقع الخبراء هنا تطورات إيجابية في العلاقات مع مصر إزاء التطورات الإقليمية الضاغطة علي كل الأطراف الإقليمية بلا استثناء, والتي تفرض التفاهم والتعاون واعتماد الحوار آلية لحل الخلافات. خصوصا أنه ثبت أن سوريا تجاوزت ضغوطا عليها, فمن المفارقات المثيرة للدهشة أنه خلال فترة السنوات الخمس(2004 2008) التي شهدت سياسة محاولة عزل سوريا وحصارها من جانب الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة جورج بوش والمحافظين الجدد لإسقاط النظام الحاكم في دمشق, حققت خلالها سوريا قفزة هائلة في اقتصادها, فإجمالي الناتج القومي قفز من28,4 مليار دولار عام2006 إلي55,2 مليار دولار عام2008, ومعدل النمو قفز من4,5% إلي6,5%, وقيمة العملة المحلية( الليرة) ارتفعت من48 ليرة أمام الدولار إلي46,5 ليرة مقابل الدولار, ومعدل التضخم انخفض من11,6% إلي5,4%, وزادت الصادرات السورية من5 مليارات و355 مليون دولار إلي15 و482 مليون دولار, وتحولت سوريا تدريجيا بنجاح إلي منطقة اليورو لتعويض الحصار الذي فرضته الولاياتالمتحدةالأمريكية ولاتزال علي البنوك السورية تحت ما يسمي ب قانون محاسبة سوريا, كما لاتزال واشنطن تؤخر انضمام سوريا لعضوية منظمة التجارة العالمية. والأكثر إثارة للدهشة, هو أن العلاقات الاقتصادية بين مصر وسوريا لم تتأثر بمناخ العلاقات السياسي خلال الفترة نفسها التي شهدت فتورا بسبب تباين في وجهات النظر السياسية حول قضايا إقليمية, فتشير تقارير جهاز الإحصاء السوري أيضا إلي أن حجم التبادل التجاري بين البلدين قفز من301 مليون دولار في عام2004, أي عام بداية الفراق, إلي نحو مليار ونصف المليار دولار عام2009( نحو خمسة أضعاف), حيث ارتفع حجم الصادرات المصرية لسوريا من194 إلي615 مليون دولار, وحجم الصادرات السورية لمصر من107 إلي732 مليون دولار, الأمر الذي يعكس أيضا حكمة قيادتي البلدين لإبعاد التأثيرات السلبية للخلافات السياسية عن القرارات التي تمس مصالح الشعبين المباشرة.