فى القضايا الكبرى الخطيرة، لايبدو الذعر حلا جيدا، أما الإفراط فى الطمأنينة فهو مثل التهور، كلاهما خطر حقيقى وأى خطر.. أظهر تحطم الطائرة الروسية فى سيناء، حجم التربص الغربى الفاضح بمصر،بلا حياء أو مواربة، تربص اغتنم «الكارثة» لتوجيه لكمة قوية للسياحة أحد أهم موارد وشرايين الاقتصاد المتوعك أصلا، وكأن الغرب «يشجع «الإرهابيين على اقتراف الجرائم، لتركيع المحروسة، ثم إعادة تشكيل المنطقة برمتها «على عين هذا الغرب» وفوضاه الخلاقة. قراءة أعماق المشهد تجلى الكثير، لكن ما يعنينا، هو لفت الانتباه إلى محاولات لا تتوقف لوضع العصى فى دواليب الدولة المصرية، لاسيما قطاع السياحة الحيوى، ومن ثم ضرورة اتخاذ الاحتياطات كافة، لإفشال هذه المحاولات. إن محاولة الهجوم على السائحين بمعبد الكرنك هذا العام، والقبض على خلية لتنظيم «داعش» الإرهابى بقنا، فى الصعيد، منذ أسبوعين، يكشف عن أن الخطر قائم، وأن أعداء الداخل والخارج توحدت أهدافهم ضد المصريين، ومن هنا لايجوز لنا الانتظار حتى تقع كارثة جديدة - لاقدر الله - إنما ينبغى الإمساك بزمام المبادرة وسد الطرق على المخربين والموتورين، ولعل أول خطوة فى هذا السياق هى النظر باهتمام «لائق» إلى الصعيد الغارق فى المشكلات والاحتقانات، لتخفيف بخار الألم والغضب المضغوط فى صدور شبابه وشيوخه، جراء الإهمال والظلم التاريخى من جانب السلطة عبر عقود. يفور «إناء» الصعيد الشقيق بالأوجاع دون مغيث، ولو كان «فارغا» لملأ ضجيجه الآذان، كالطبل الصفيح، بتعبير أديب نوبل الألمانى جونتر جراس ..ظلت أيام الصعايدة متشابهة،عبر العصور: حاضر مقلق وخوف نافذ من المستقبل.. أهل الحكم «كفوا عليه ماجور»، اكتفوا بالفرجة على «إنسان الصعيد» فى المشاهد الدرامية الفانتازية، لايختلف حاله عندهم عن «فريد شوقى» الذى يُصفع على قفاه فى بداية فيلم «السوق» ثم يتحول إلى معلم كبير لا يختلف سلوكه عن الطاغية «زكى رستم»، وعليه فالأفضل أن يظل حاله، كما هو، لا يتحرك قيد أنملة. يرشح الدم من جنبات الصعيد، ممزوجا بالأسى، أرخت السياسة سدولها على الناس بأنواع الهموم، زار الرئيس المخلوع حسنى مبارك فرنسا مرات أكثر بكثير من زياراته للصعيد..بعد 25 يناير و30 يونيو، تفجرت آمال بتغيير الأحوال، لكن شيئا لم يتغير، الوزراء ورجال السياسة والإعلام،..إلخ، الجميع يعطون ظهرهم لأهل الصعيد، لهذا يعيش الناس هناك أياما يمرح فيها الخيال: اشتعال العصبيات العائلية وازدهار تجارة الأسلحة الخفيفة والثقيلة أعادا بناء قدرتهم على استخدام العنف.. فى المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب، استعارت الأحزاب الآليات القديمة نفسها، فلم تسع إلى تفكيك أو إضعاف العصبية القبلية، بل دعمتها ووظفتها لضمان سيطرتها، فوضعت على رأس قوائمها بدوائر الصعيد أسماء تتمتع بنفوذ عشائرى ورءوس أموال..لقد التفت الدكتور جمال حمدان فى «شخصية مصر» إلى أن الصعيدى أخذ فى نظرته الحضارية من ضيق الجغرافيا وعزلته ما يمكن تسميته بالعصبية القبلية.. الغريب حقا، هو عودة البنى السياسية البالية، فلا حزب ولا قائمة واحدة طرحت برنامجا أو رؤية أو خطة للنهوض بالصعيد من عثرته الهائلة ومظالمه الممتدة، على درب الألم، ما بين الجيزة وأسوان (قبلى الجنينة ورايح) منطقة مسكونة بثلث السكان فى بر مصر المحروسة، إمكاناتها الكامنة جبارة زراعيا وسياحيا وصناعيا.. ما يعنى أن الأوضاع مرشحة للتفاقم، البطالة الرهيبة تعصف بأحلام شباب يبحث عن بصيص أمل، الدولة لاتبدى استجابة كافية لدواعى الضرورة فى فرصة جيدة للتعليم أو الصحة أو العمل، قطارات الصعيد حتى وقت قريب كانت تشتعل بركابها.. تحتل محافظات الوجه القبلى ذيل المؤشرات التنموية، هنا الخطورة الشديدة فسيناء والصعيد هما بوابتا مصر الرئيسيتان، ولو تمت فيهما تنمية حقيقية لتقدمت المحروسة بأقصى سرعة، ظلت التنمية مقصورة على القاهرة والوجه البحرى وشرم الشيخ ، لذا يقول أهالى الصعيد ساخرين من أحوالهم:»بحّر يوم، ولاتقبل سنة»، لغياب التنمية وندرة الموارد وشظف العيش. أسوأ الممكنات، هو طرح حلول لاتستقيم مع منطق الأشياء، أو تتجاوب مع أوضاع الناس ومعاناتهم، فلا يمكن بعد إعصارى يناير ويونيو، توهم أن الحلول الجزئية والمسكنات، يمكن أن «تعدل المايل»، لأن العاصفة عندما تضرب مكانا، لايجوز الاكتفاء بإصلاح الزجاج المحطم أو زرع أشجار جديدة غير تلك المتساقطة، إن أهم ما يتوجب على الدولة أن تفعله إزاء الصعيد - بعيدا عن سياسة «التطنيش» التى تكرس الإفقار وتؤبد الحاجة لدى قاطنيه- هو استراتيجية شاملة للتنمية وتحسين معيشة الأفراد من خلال إمكاناتهم هم، بالتوازى مع مكافحة البطالة والفقر والمرض والاستغلال والاحتكار، إن الصعيد قطعة أرابيسك تتداخل فيها خصوصية المكان والتاريخ والمجتمع والحضارة الممتدة، وهناك طاقات كامنة واعدة، إذا أحسن استثمارها ونشرت فيه الصناعات الثقيلة والخفيفة وترقية الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، سيعود ذلك بالفائدة على مصر كلها، ولن يجد «الإرهاب» موطأ قدم له..! من حق الصعيد التعليم والثقافة والاستثمار ونصيب عادل من الدخل القومى والخدمات، هنا تتطلع العيون إلى الرئيس السيسى، لتحريك مياه الصعيد الراكدة منذ عقود، ودفق الوقود فى مولدات التقدم، وقطع دابر المخربين.. وعلى نواب الإقليم بالبرلمان أن يهيئوا المناخ الملائم. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن