رحم الله يوسف إدريس فقد كان أحد الذين حاربوا حتى اللحظة الأخيرة من أجل حرية الإبداع، ولذلك ترك لنا كلماته التى تشبه صرخة الاحتجاج التى لا تزال تتردد من زمنه إلى زمننا عندما قال: «إن كل الحرية المتاحة فى العالم العربى لا تكفى روائيا واحدا». وها نحن بعد ثورتين نرى الدنيا حولنا لا تتغير، كأننا بطل قصته القصيرة «المرتبة المقعرة». والمعروف أن الثورات تتفجر بتلهب الحرية فى النفوس والعقول والقلوب، فيتمرد الجميع على تقاليد الماضى المتحجرة، وأنظمة الاستبداد الهرمة، وآليات الحجر على حق الاختلاف والمغايرة والمغامرة الذى هو قدس أقداس الحرية الإبداعية. ولكن يبدو أننا نتقدم إلى الأمام وأعيننا فى أقفيتنا، فنتحرك خطوة إلى الأمام وعشر خطوات إلى الخلف. لقد سقط نظام سياسى قديم فاسد فى 25 يناير، وسقط مشروع دولة دينية هى نوع من الفاشية الجديدة فى 30 يونيو. ولكن يبدو أن الرياح تأتى بما لا تشتهى النفوس والقلوب والعقول الحرة، خصوصا الشباب الذين كانوا الوقود الحقيقى لكل من ثورة 25 يناير و30 يونيو على السواء. ولا أدرى لمصلحة من تقمع العقول المبدعة لهذا الشباب الذى نعتمد عليه لفتح أبواب المستقبل الواعد. هل نريد أن نحول بين هذا الوطن وأضواء إبداع المستقبل الذى يحمل على كفيه أحلام الدولة المدنية الواعدة بالحرية والعدل، والحرية لا تتجزأ فكرا وإبداعا وموقفا سياسيا وفكرا دينيا على السواء. فى سنة 2014- أى العام الماضي- نشرت دار نشر لمجموعة من الشباب، باسم منشورات رسوم رواية بعنوان «استخدام الحياة» تأليف أحمد ناجى ورسومات أيمن الزرقاني. والرواية فيما يسمى «الأدب التجريبي»، وتقوم على حوار بين المرسوم المتصل بفن الكوميكس والمقروء الذى ينبنى على طرائق مبتكرة فى القص وجرأة فى تناول الموضوعات. ومضى على طبع الرواية عام كما قلت، وقامت بتوزيعها «دار التنوير»، وهى دار نشر محترمة، تهدف إلى تنوير العقول، ولها فروعها فى القاهرة وبيروت وتونس. وحصلت إحدى رواياتها على جائزة بوكر العربية فى العام الماضي. ويبدو أن الأستاذ طارق الطاهر رئيس تحرير «أخبار الأدب»- وهى أهم جرنال أدبى يصدر فى العالم العربي، وله دوره الفاعل فى تشجيع التجارب الطليعية فى الأدب- عرض عليه أن ينشر فصلا من رواية أحمد ناجي، فوافق تشجيعا للتجريب والمغامرة، وهما جناحا الأدب فى التغير الخلاق. ونشرت «أخبار الأدب» بالفعل فصلا من رواية «استخدام الحياة». وتصادف أن قرأ العدد الأستاذ هانى صالح توفيق، ويبدو أن خبرته بالأدب محدودة جدا، ففهم الفصل من الرواية الخيالية على أنه مقال، فانفعل وغضب لما رآه فى المقال الذى هو فصل من رواية خيالية، وتقدم بشكوى إلى النيابة، وذهب فى بلاغه إلى أنه عندما قرأ المقال المنشور لأحمد ناجى حصل له اضطراب فى ضربات القلب، وإعياء شديد، وانخفاض حاد فى الضغط. وما كان من النيابة إلا أن أحالت البلاغ إلى قضية (رقم 1945 لسنة 2015 إدارى بولاق أبو العلا)، وجاء فى أمر إحالة المتهمين أحمد ناجى وطارق الطاهر «إن المتهم- أحمد ناجي- نشر مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة، وأجّر عقله وقلمه لتوجه خبيث، حمل انتهاكا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر، خروجا على عاطفة الحياء»، والحق أننى ترددت فى كتابة الجملة الأخيرة، لكنها هكذا وردت فيما قدم لى تصويرا عن جريدة التحرير 2/11/2015. والسؤال الآن: هل يستحق نشر فصل من رواية تجريبية، لا يقرؤها إلا الخاصة من المثقفين، الإحالة إلى محكمة الجنايات. وهب أن قارئا استفزه ما قرأ، ولم يستطع التمييز بين القص الخيالى والمقال، فهل من حقه أن يقدم بلاغا إلى النيابة. وهل يعنى قبول البلاغ أننا عدنا إلى كارثة زمن الحسبة التى أدت إلى كارثة نصر أبو زيد وأمثاله. وماذا عن المواد الخاصة بحرية التفكير والإبداع والنشر فى الدستور المصرى الذى أقره الشعب بعد ثورة 30 يونيو، خصوصا المواد 65، 66، 67. وتؤكد المادة (65) أن حرية الرأى والفكر مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير. أما المادة (67) فهى حاسمة فى النص على أن حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة. ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكري...»، وواضح مما تنص عليه المادة أن واجب الدولة رعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم. وهذا لا يكون إلا بإشاعة مناخ من الحرية يتيح للمبدعين حقهم فى المغامرة والتجريب دون عوائق أو قيود أو خوف من عقول مظلمة وعقليات تنتسب إلى سلفية وهابية هى أعدى أعداء الإبداع. وقد كتبت وقلت مرارا وتكرارا إن أعدى أعداء الإبداع الفنى والأدبى والفكرى عدوان: أولهما الاستبداد السياسى الذى يكمم أفواه المبدعين، ويشيع طبائع الاستبداد فى الأمة، وثانيهما: الانغلاق الفكرى والتعصب الدينى الذى صنع محاكم التفتيش بكل فظائعها فى أوربا، وحرق الكتب والمفكرين من أمثال الإيطالى جيوردانو برونو. ويبدو أن ما يحدث حولنا، والسنة الكئيبة التى حكمنا فيها الإخوان، فضلا عن السلفية الوهابية التى لا تزال تعيش بين ظهرانينا تخلق مناخا من الانغلاق بين طوائف لا تزال لا تعرف الفارق بين فصل فى رواية خيالية ومقال فكري. مؤكد أننا فى حاجة إلى نشر وإشاعة ثقافة الاستنارة التى تحول دون أن يقرأ قارئ فصلا فى رواية، فيبلغ به سوء الظن إلى تقديم بلاغ إلى النيابة، فتقوم النيابة بتحويل رئيس تحرير محترم من حقه أن ينشر ما يراه إبداعا حتى ولو خالف القراء فى الرأي. أما هذا القارئ الذى سارع بالمبالغة بإساءة الظن فى كاتب عمل تجريبي، ولم يعرف الفارق بين المقال والقصة، فحسبى أن أذكره بالقول المنسوب إلى الإمام مالك: «إذا ورد قول من قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولم يحمل على الكفر.» والروائى الشاب الواعد أحمد ناجى لم يقل ما يحتمل الكفر، بل خرج على الأخلاق التقليدية الجامدة. ويقينى أن كل مثقفى مصر الشرفاء معك يا أحمد أنت وطارق، فقضيتكما هى قضية مستقبل الثقافة فى مصر. ولحسن الحظ، عندنا قضاء مستنير وقضاة يعرفون قيمة الأدب وقيمة التجريب والمغامرة فى الأدب، خصوصا إبداع الشباب صانع مستقبل هذا الوطن الحزين الذى ابتلاه الله بمتعصبين لا يدركون معنى الأدب ولا معنى التجريب الأدبي. لمزيد من مقالات جابر عصفور