أسماه الفقراء «قاضي الشريعة» مع أنه لم يتقلد ناصية القضاء، لكنهم أحبوه كما أحبهم، وظلوا متعلقين به بعد موته، وتبركوا بمقامه بقدر ما كان مخلصاً لهم في حياته. ولشعور البسطاء بانحيازه لهم، وتبسطه معهم في الشوارع والأسواق، وبشاشته الدائمة، حيث كان يوزع ابتساماته على الجميع، ويظهر إعجابه بكل جديد يراه، تعلقوا به، واختلفوا إلى مجالسه بمحبة وإقبال جماهيري كبير، ومن لحظاته الأولى في مصر ( 199 ه/ إلى وفاته 204 ه) اقترن اسمه عندهم بلقب الإمام ولا يُنطق من دونه إلى الآن، وبعد وفاته بأكثر من ألف ومئتي سنة، وكما كان حضوره الشخصي بينهم لطيفا، بطوله الفارع، ولحيته المُخضَّبة بالحِنَّاء، وحديثه العذب، وملابسه البسيطة، وعصاه الخشنة ، وحرصه على تفقد أحوال الناس، ظلت صورته في وجدانهم صافية، مرهونة بالورع والعلم والإنصاف. وقد تعرف الإمام الشافعي على فقه الإمام «الليث بن سعد» صاحب الشعبية الكبيرة بين المصريين، قبل مجيئه إلى مصر بسنوات طويلة، وبحث عن كتبه، فلم يعثر إلا على قليل مما حفظه بعض تلامذته، وحين أتى إلى مصر انبهر بمزاوجة الإمام الليث الناعمة بين روح الإسلام والحضارات القبطية والمصرية القديمة واليونانية، وتجسدت أمام عينيه فكرة أن الشرع يدور حيث تكون مصالح الناس. وحين جلس للإفتاء في مسجد «عمرو بن العاص»، كان متيقظا للاختلافات الذي شاهدها في المجتمع المصري عن البلاد الأخرى، وقام بتعديل وتغيير بعض آرائه، حتى قال الإمام «أحمد بن حنبل»: «خذوا عن أستاذنا الشافعي ما كتبه في مصر». والشافعي عند المصريين أقرب جار، حيث ولد في غزة سنة 150 هجرية، في العام نفسه الذي تُوفىًّ فيه الإمام «أبو حنيفة النعمان»،إمام أهل الرأي بالعراق، وبسبب ميلاده هذا مازح أحد فقهاء الحنفية زميلا شافعيا، بقوله : « إمامكم كان مخفياً حتى ذهب إمامنا» فردَ صاحبه : «ولمَّا ظهر إمامنا هرب إمامكم ». ونسبه يصل إلى جده «ابن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف»، و«المطلب» شقيق «هاشم بن عبد مناف» أبو «عبد المطلب» جد النبي الكريم، ومعروف أن «هاشم» كان على رأس قافلة، ومات في غزة ودفن في ثراها، لذا يقال «غزة هاشم» إلى الآن. ويرجع نسب الشافعي من ناحية أمه «فاطمة» إلى أم الإمام «علي بن أبي طالب»، وهو ما شجعه ليقول: «علي بن أبي طالب ابن عمي وابن خالتي». وربما كان هذا النسب أحد أسباب تعلق المصريين لميلهم الكبير إلى آل البيت. ولأن الشافعي كابد في طفولته وشبابه، مشقات الفقر، وشظف العيش، قال في إحدى قصائده : يمشي الفقير وكل شيء ضده ... والناس دونه تغلق أبوابها وتراه ممقوتا وليس بمذنب ... ويرى العداوة لا يرى أسبابها حتى الكلاب إذا رأت ذا غنى ..... انحنت إليه وحركت أذنابها وإذا رأت يوما فقيرا عاديا ...... نبحت عليه وكشرت أنيابها وقال أيضاً: إن الغني إذا تكلم بالخطأ ....... قالوا أصبت وصدقوا ما قالا وإذا الفقير أصاب قالوا كلهم .... أخطأت يا هذا وقلت ضلالا وقد أحب الشعر، وقرضه، وكانت قصائده مفعمة بالحكمة والشجن، ولو أنه تفرغ للشعر، لكان له شأن لا يقل عما أصابه في الفقه. ونتيجة لضيق الحال في غزة رحلت به أمه إلى مكة، وهناك أظهر نبوغا في حفظ القرآن، وأتمه في السابعة من عمره، ثم جوَّدَهُ وأتقن تلاوته، وتفسيره وهو في الثالثة عشرة، وأضفى الحزن على صوته خشوعا، فكان كلما قرأ القرآن في الحرم المكي أبكى الناس، ودرس الأحاديث،والتفسير، واعتمد على ذاكرته في الحفظ لعجزه عن شراء الورق، فكانت تمتص كل ما يسمعه. وشهد دروس «الليث بن سعد» إمام مصر في المسجد الحرام حين كان يذهب حاجاً أو معتمرا، وسمعه ينصح الناس بإتقان اللغة وبلاغتها وآدابها، وبحفظ الشعر، فمكث في بادية قريبة من مكة عشر سنوات، حتى حفظ أشعارهم، وعاد إلى مكة شاعرا. ثم تتلمذ على الإمام «مالك بن أنس» في المدينة، وحفظ كتابه «الموطأ»، وفي المدينة التقى «محمد بن الحسن» تلميذ «أبي حنيفة» وشيخ أهل الرأي في العراق، والتقى بعض تلاميذ جعفر الصادق، فتعلم منهم أن العقل أقوى أدوات الاستنباط حين لا يكون نص، لأنه أداة فهم النصوص، وعرف أقضية الإمام علي كرم الله وجهه. وتعرف إلى عدد من فقهاء مصر من تلاميذ الليث، وكان من عادتهم بعد الحج زيارة المدينة للصلاة في الحرم النبوي، وسماع الإمام مالك. ونشأت بينه وبينهم صداقة انتفع بها عندما هاجر إلى مصر ومنهم ابن عبد الحكم. وفي الكوفة استضافه «محمد بن الحسن»، وحضر حلقاته هو وزميله أبي يوسف. وكتب الشافعي كل ما وجده من فقه أبي حنيفة، ثم غادر الكوفة بحمل بعير من الكتب، وطاف ببلاد فارس، وحاور شيوخها، وسافر إلى ديار ربيعة، ومضر، وذهب إلى بغداد وشمال العراق، والأناضول، وحران، وبلاد الشام وزار أمه بمكة. وفي الحجاز انتصف لأهل الرأي من أهل الحديث، وأنصف أهل الحديث من أهل الرأي، وقاوم التعصب المذهبي، وحاول تقريب المذهبين، وكان معجبا بوسطية الإمام الليث بن سعد المصري بين أصحاب الرأي وأهل السنة. وعندما قرر الذهاب إلى مصر أنشد يقول: لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر واستقبله على أبواب الفسطاط عدد من الفقهاء ورجال الدولة، وحاولوا كلهم استضافته. وخصص الوالي له منزلا كبير، لكن الشافعي آثر الإقامة عند أقارب أمه، وبعد زيارة الإمام الليث زار السيدة نفسية، حفيدة الحسن بن علي، وزوجها إسحق المؤتمن بن الإمام الصادق جعفر، ورحبت به، وأعجبها عقله وورعه، وسمع منها ما لم يصل إليه من الأحاديث النبوية. ومن أبرز الآراء التي ظهر فيها التأثير المباشر للبيئة المصرية رأيه في بيع ماء الري، فقد كان قبلاً يرى مثل الإمام مالك أن من حق صاحب الأرض التي بها بئر أن يبيع الماء،لكنه في أرض النيل، اعتنق رأي الإمام الليث بأن صاحب البئر ليس له غير سبق الاستعمال، وللغير حق الشرب وري أرضه بلا مقابل، لأن ماء النيل غزير، والزراعة هي النشاط الأساسي في عموم مصر. وتحدث الشافعي في مصر عن مكانة الشورى في الإسلام، باعتبارها فرضا على الحاكم والمحكوم، وفيما لم ينزل به وحي كان الرسول يقول «أشيروا علي أيها الناس»، ليحدد سنة لولي الأمر من بعده. والشافعي يرى أن الحاكم واجب الطاعة مادام الناس قد اختاروه ببيعة لا إكراه فيها و لا زيف، وإن كان هذا الحاكم قد غلب على الأمر وانتزعه من صاحبه .. وهو يكتسب الشرعية من مبايعة الرعية فإن رأوا في الحاكم ما يخالف الله ورسوله فلهم ألا يطيعوه. وجلس الإمام الشافعي يعلم الناس ويحاورهم في حلقاته الثلاث حلقة القرآن، وحلقة الحديث، وحلقة الأدب والمعارف الإنسانية. ومما دار في حلقاته خلافه مع آراء للإمام مالك. وكان في مصر تلامذة للإمام مالك متعصبون لا يطيقون الخلاف معه، وطرح شخص يدعى «فتيان» مسألة خلافية في مجلس الشافعي، وعدَّد أدلة مالك في المسألة، وتغلب الشافعي بالحجة على «فتيان»، فضاق صدره وشتم الإمام الشافعي بألفاظ قاسية. وتكرر شتم «فتيان» للإمام، لكن تلاميذه فاض بهم، واشتكوا فتيان للحاكم، وحقق الوالي الشكوى وأدان الشهود «فتيان»، لكن الإمام الشافعي لم ينطق بإدانته، فقال الوالي «لو شهد الشافعي على فتيان لقطعت رأسه». وأمر الوالي بضرب "فتيان" بالسياط، والطواف به على جمل، بعد حلاقة لحيته وشاربه ورأسه، لكن الإمام الشافعي لم يرض عن هذا، وعاد إلى بيته مهموما، فغلبه نزيف البواسير، وكانت علته هذه تتطلب الراحة وعدم إطالة القعود أثناء الكتابة، ولا في الحلقات. وزاره الطبيب وتناظرا في الطب، فأعجب به الطبيب، وتمنى عليه أن يشتغل بالطب فقال الشافعي ضاحكا وهو يشير إلى أصحابه المنتظرين خارج غرفته "هؤلاء لا يتركونني". وخرج الشافعي من داره بعد أيام إلى حلقته، وتربص به بعض أصحاب فتيان، حتى خلت الحلقة وبقى وحده، وخلا الجامع من رواده، فانقضوا عليه وضربوه بهراوات وبعنف، إلى أن سقط مغشيا عليه، وحُمل إلى منزله فاقد الوعي، وأفاق، لكنه ظل يعاني أوجاع الضرب، وآلام الصدمة، والنزيف!! وخلال الست سنوات الأخيرة من عمر الإمام الشافعي والتي قضاها في مصر، كان العامة يشاهدونه يكتب لفترات طويلة، وكانوا يرسلون إليه الشكاوى فيناقشهم فيها ويتدخل لحلها، عند ذويهم، أو لدى مسئولي السلطة". ويردد عنه البسطاء قصة شهيرة من طفولته حيث فصل في نزاع شديد بين أبيه وأمه على قطعة أرض بحكم عادل، وهي قصة دعمت اعتقادهم بصفاء سريرته، ما يعني أن الله أنار بصيرته منذ بواكيره، فكانوا يصدرون رسائلهم إليه في مرقده بقولهم : « يللي حكمت بين أمك وأبوك بالعدل». لينصفهم، وربما ضاعف اسمه من إيحاءات بركته بمخيلة المصريين، فهو الشافعي، من الشفاعة، لما حباه الله من فضله في العلم والحكمة وجلاء البصيرة. ومن لا يكتبن من النساء، يذهبن إليه كل جمعة، ويجلسهن بجوار ضريحه، ويهمسن إليه بمتاعبهن الأسرية، وربما يبحن بأسرارهن، ويرجونه أن يخلصهن من المظالم التي يعانينها، ولديهن اعتقاد كبير بأنه لا يرد طلبا لأحد، ويناصر الفقراء بالذات، ويستجيب من فوره لمطالبهم، كما كان ينحاز إليهم في حياته، ويتحرك معهم لقضاء حاجاتهم. وينفر البسطاء ممن يسخر من هذه العادة، أو يصفها بالخرافة، أو يتهمهم بالضلال، أو الشرك بالله، خاصة أنهم يجزمون بأن كل شيئ بيد الله وحده، لكنهم يعتقدون أيضا بأن الأولياء الصالحين واسطة لطلب الشفاعة، وأن الله قد يتقبل وساطتهم ببركة ما قدموه من خير في حياتهم، لذلك يلجأون إليهم بيقين ومحبة، ويشعرون بالسكينة في جوارهم، ويؤبون إلى بيوتهم بقلوب متخففة من الهموم. ولا يكتفي الفقراء بكتابة الشكاوي إلى الإمام الشافعي، بل يتركون قطعا من ملابسهم، خاصة الطُرح، وأغطية الرأس، في صندوق بجوار الضريح ليتعرف عليهم الإمام بسهولة من أشيائهم، وكان أول من توقف أمام هذه الظاهرة بالبحث والتقصي، هو عالم الاجتماع الراحل الدكتور سيد عويس، وقد تمكن من دراسة 70 رسالة، وضمنها في كتابه «ملامح المجتمع المصري ظاهرة إرسال الرسائل للإمام الشافعي» وخلص منها إلى أنها ظاهرة شعبية، يمارسها المصريون بمختلف طبقاتهم، وأطيافهم لاعتقادهم «بسلطة الأولياء» وقدرتهم على رفع المظالم عنهم. وأكد عويس أن المصريين يبحثون عن بركة الولي حين يشتد عليهم المرض، أو يتعرضون لظلم، أو يعانون ضيق الحال. واكتشف دكتور «عويس» أن أغلب الشكاوى المبحوثة كانت لنساء «تعمل مخيلتهن بشكل مثير»،ولاحظ أن أغلب المظالم المدونة في الشكاوى يصعب إثباتها أمام المحاكم، باشتراطات القوانين الوضعية، لذا يصبح الأولياء متنفساً، وملاذا للمظلومين. و رأى أن بعضهن أفشين أسرارهن للإمام الشافعي وطلبن منه إنصافهن. وطلبن منه السعى لعقد «المحكمة السماوية»، وطلب المساندة من السيدتين «نفيسة و زينب» بالحضور والوقوف بجانبهن لرفع المظالم عنهن. وخلص إلى أن الشعور بالظلم الاجتماعي، واليأس من تحقيق العدل، كان دافعا لفقراء الدلتا و الصعيد، لإرسال الرسائل إلى مسجد الشافعي عبر البريد الحكومي. كما يرسلونها إلى الأقارب والأصدقاء. المؤلم أن الإمام حين أفاق من غيبوبة ضربه على يد أصحاب «فتيان»، لم يسعفه العلاج فأرسل إلى السيدة نفيسة يسألها الدعاء، فقالت لرسوله «أحسن الله لقاءه ومتعه بالنظر إليه». فعلم أنها النهاية. وربما ضاعف هذا من إحساس المصريين بمظلوميته، وضاعف اعتقادهم بأن هذه الأسباب تقربه إلى الله أكثر، وتجعله ملاذا ووسيطا لهم.