"في دار من دور المدينة المباركة جلس عمر إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا.. قال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله.. قال: تمنوا.. قال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدا وجوهرا، أنفقه في سبيل الله، وأتصدق به.. قال: تمنوا.. قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: "أتمنى رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله". رحم الله عمر.. لقد كان خبيرا بما تقوم به الحضارات الحقة، وتنهض به الرسالات الكبيرة، وتحيا به الأمم الهامدة.
إن الأمم والرسالات تحتاج إلى المعادن المذخورة، والثروات المنشورة، لكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرءوس المفكرة التي تستغلها، والقلوب الكبيرة التي ترعاها، والعزائم القوية التي تنفذها.. إنها تحتاج إلى "الرجال".
الحاجة إلى الرجال
أعد ما شئت من معامل السلاح والذخيرة، فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب.. وضع ما شئت من القوانين واللوائح فستظل حبرا على ورق ما لم تجد الرجل الذي ينفذها.. وضع ما شئت من مناهج للتعليم والتربية فلن يغني المنهج إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه.. وأنشيء ما شئت من لجان فلن تنجز مشروعا إذا حُرمت الرجل الغيور.. ذلك ما يقوله الواقع الذي لا ريب فيه.
يقول أهل العلم إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي.. والعدل ليس في نص القانون بقدر ما هو في ضمير القاضي.. والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح العلم.. وإنجاز المشروعات ليس في تكوين اللجان بقدر ما هو في حماية القائمين عليها.
ما أحكم عمر حين لم يتمن فضة، ولا ذهبا، ولا لؤلؤا، ولا جوهرا، لكنه تمنى رجالا من الطراز الممتاز الذين تتفتح على أيديهم كنوز الأرض، وأبواب السماء.
إن رجلا واحدا قد يساوي مائة، ورجلا قد يوازي ألفا، ورجلا قد يزن شعبا بأسره، وقد قيل:"رجل ذو همة يحيي أمة".
تعريف "الرجل" في اللغة
وردت كلمة "رجل" في القرآن بمواضيع كثيرة.. والرجل - لغة - ضد المرأة، والجمع رجال، ورجالات، مثل جمال، وجمالات، ويقال للمرأة: رجلة.. ويقال: كانت عائشة - رضي الله تعالى عنها - رجلة الرأي.. وتصغير الرجل: رجيل ورويجل أيضا. (المختار من صحاح اللغة).
وصف "الرجال" في القرآن
أثنى الله تعالى على نوعية من الرجال، وذكر طائفة منهم في كتابه، وحدد لهم مواصفات معينة، فقال: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا". (الأحزاب:23).
يقول ابن كثير: "قَضَىٰ نَحْبَهُ"، قال مجاهد: أي عهده.. "مَن يَنتَظِرُ": قال: يوما فيه القتال، فيصدق في اللقاء. وقال الحسن: "قَضَىٰ نَحْبَهُ" أي: موته على الصدق والوفاء.. و"مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا"، أي: ما غيروا عهدهم، وبدلوا الوفاء بالغدر، بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا: "إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا". (الأحزاب:13). [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد