بقدر ما كان إعلان الصين إنهاء سياسة الطفل الواحد بعد 37 عاما من تطبيقها والسماح لجميع الأزواج بإنجاب طفلين مفاجئا، من حيث توقيت صدوره، بقدر ما كان متوقعا ضرورة اتخاذ مثل هذا القرار لأسباب كثيرة، دفعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى الصينى إلى التصويت بالإجماع على الانتقال إلى سياسة الطفلين، ويبقى حصول القرار على موافقة المجلس التشريعى لسن قانون جديد بتفاصيله قبل بدء التطبيق. الشيخوخة كانت من أهم الأسباب المباشرة التى أدت إلى اتخاذ الحزب الشيوعى الصينى لهذا القرار خلال اجتماعات الدورة الخامسة للجنته المركزية ال18، وهو ما كشف عنه بيان الحزب الذى تضمن القرار، حيث جاء فيه أن الهدف من إصدار هذا القرار وتغيير السياسة هو "تحقيق التوازن بين نمو التعداد السكانى ومواجهة تحديات تضخم شيخوخة السكان". وقد أثارت دراسات صينية كثيرة منذ سنوات مخاوف من مشكلة الزيادة السريعة لشيخوخة السكان فى الصين، وما يمثله ذلك من نقص فى القوى العاملة، وذكرت وزارة الشئون المدنية الصينية فى وقت سابق أنه فى نهاية عام 2014 كان هناك 212 مليون شخص فوق 60 عاما فى الصين، بنسبة 15.5% من إجمالى السكان، وأظهرت بيانات رسمية أن عدد العمال الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و59 عاما تقلصت بمقدار 3.71 مليون شخص خلال 2014، مقارنة بالعام السابق. قوة العمل العلاقة بين الدعوة لتنظيم الأسرة فى الصين، التى كان من نتائجها تطبيق سياسة الطفل الواحد، وبين توفير القوى العاملة علاقة وثيقة، كما تؤكد الدكتورة توخوا يانج، أستاذة العلوم الاجتماعية بجامعة رينمين، وإحدى أهم الخبيرات الصينيات فى هذا المجال، حيث أشارت إلى أن دعوات تنظيم الأسرة بدأت فى الصين منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، ووضعتها الحكومة الصينية فى قمة أولوياتها، ومن الغريب أنه لم يكن الهدف منها فى البداية السيطرة على الانفجار السكانى بقدر ما كانت تهدف لتحسين صحة المرأة بتقليلها عدد مرات الإنجاب، وذلك لتكون قادرة على العمل بجوار الرجل فى المصانع والحقول وكل الأعمال، حيث كانت الصين تحتاج إلى الجميع لبناء نهضتها، وكانت النساء الصينيات تعانى من متاعب صحية بسبب تكرار الإنجاب. وتضيف الدكتورة توخوا يانج أنه مع ظهور مشكلة الانفجار السكانى مع زيادة عدد المواليد فى الستينيات والسبعينيات بدأ التفكير فى وسائل لتحجيم هذه الزيادة التى تهدد التنمية، وكان من نتائج ذلك تطبيق سياسة الطفل الواحد فى الصين اعتبارا من عام 1978، بعد إقرار المجلس التشريعى للقانون الخاص بها. ثلاث سياسات المتداول من معلومات حول سياسة الطفل الواحد أنها قواعد يتم تطبيقها على كل الصينيين، لكن الحقيقة أنها ثلاث سياسات مختلفة منذ بداية تطبيقها، كما جرت عليها بعض التعديلات خلال التطبيق، فمنذ البداية راعت سياسة الطفل الواحد عددا من المتغيرات، حيث تم التباين فى التطبيق حسب منطقة إقامة الأسرة وقوميتها، وتم تطبيق السياسة بالشكل المعروف عنها على قومية الهان، الذين يمثلون أكثر من 92% من عدد سكان الصين، خصوصا المقيمين فى المدن الكبرى والمناطق الحضرية، فكان يسمح لكل زوجين بإنجاب طفل واحد، وفى حال المخالفة وإنجاب الطفل الثانى يتم تغريمهما مبالغ تختلف حسب مكان إقامتهما، كما لا يتم ترقيتهما فى وظائفهما، إضافة على عدم تمتع الطفل الثانى بالتعليم المجانى ولا العلاج على نفقة الدولة أو غيرها من المزايا التى يتمتع بها الطفل الأول. فى المقابل تم استثناء أبناء القوميات الصغيرة، التى تعتبر أقليات فى الصين، ومعظمهم يعيشون فى مناطق نائية، من سياسة الطفل الواحد، وكان مسموحا لأبنائها بإنجاب أكثر من طفل، مثل المسلمين من قومية "هوي"، الذين يعيش معظمهم فى مقاطعة نينغشيا ذاتية الحكم شمال غرب الصين، وأبناء منطقة التبت، الذين يعيشون فوق هضبة التبت جنوب غرب الصين. الطفل ونصف سكان المناطق الريفية تمتعوا بتطبيق قواعد أكثر مرونة من سياسة الطفل الواحد، أُطلق عليها سياسة "الطفل ونصف"، وتقضى بالسماح للزوجين بإنجاب الطفل الثانى إذا كان مولودهما الأول أنثي، أما فى حالة كان المولود الأول ذكرا فتطبق قواعد الطفل الواحد، وكانت هذه السياسة سببا فى تجريم إخبار الطبيب للوالدين بجنس المولود قبل الولادة، ومنع ذلك تماما، لمنع التفكير فى الإجهاض بسبب جنس المولود. وقد شهد عام 2013 تخفيفا لقيود سياسة الطفل الواحد، حيث صدر فى نوفمبر من ذلك العام قرار بالسماح لكل زوجين أحدهما طفل وحيد لوالديه بإنجاب الطفل الثاني، بعد أن كان هذا الحق مقصورا على الزوجين الوحيدين فقط فى السابق، وأظهرت البيانات أن هناك 10 ملايين أسرة تستفيد من هذا السماح الجديد، وبعد أكثر من عام على تطبيق القرار أظهرت الإحصاءات الرسمية أن مليون أسرة فقط هم من استخدموا السماح وأنجبوا الطفل الثانى بنسبة 10% فقط، بينما امتنع ال90% عن إنجاب الطفل الثانى رغم السماح. رفاهية الأطفال عدد من السلبيات ل"الطفل الواحد" ظهرت بعد سنوات من تطبيق السياسة، وكانت هى الأخرى أحد أهم دوافع اتخاذ الحزب الشيوعى الصينى لقرار التوجه نحو سياسة الطفلين، حيث زادت فى السنوات الأخيرة وتيرة الحديث عن هذه السلبيات فى الإعلام الصيني، ومنها أنه رغم منع الأطباء من إخبار الأسر بجنس المولود قبل الولادة إلا أنه تم رصد مخالفات وحالات إجهاض لتفضيل معظم الأسر إنجاب الذكور، وترتب على ذلك وجود فجوة واسعة بين الجنسين، وزاد عدد الذكور على الإناث لتصبح النسبة بينهما 1 إلى 1.7، وترتب على هذه الفجوة مشكلات مثل ارتفاع تكاليف الزواج، واتجاه الشباب للزواج من دول مجاورة. كما تم اعتبار جنوح الشباب الصينى إلى حياة الرفاهية وبعدهم عن التقاليد الداعية للوسطية فى كل شيئ إحدى سلبيات سياسة الطفل الواحد، لأن الأسر تدلل أبناءها بشكل مبالغ فيه، وتوفر لهم كل وسائل الرفاهية، فأحد أصدقائى أخبرنى أنه لا يقدم لابنته ذات السنوات الأربع الحليب المحلي، بل يشترى لها أفضل الأنواع المستوردة، وكذلك العصائر، وقد قرر النقل من شقته التى يملكها إلى شقة مؤجرة ليكون البيت قريبا من دار الحضانة التى اختارها وزوجته لابنتهما. صديقى ليس مثالا فريدا فى هذا المجال، فغالبية الأسر الصينية تعتنى بالأطفال بشكل كبير جدا، وعادة ما يقف على خدمته والديه ووالدا الأم ووالدا الأب، أى أن كل طفل أو طفلة يعتنى به 6 أشخاص بالغين. تركيبة السكان من بين السلبيات التى جرى إرجاعها إلى سياسة الطفل الواحد ما يمكن تسميته ب"خلل التركيبة السكانية"، حيث أظهرت أرقام مراكز الإحصاء الصينية أن الصين قد تواجه نقصا فى القوى العاملة بحلول عام 2021، بسبب زيادة عدد السكان كبار السن، حيث أشارت الأرقام إلى أن عدد السكان العاملين فى الصين سيظهر اتجاها إلى الانخفاض، لأن العمال الذين ولدوا فى فترة زيادة المواليد ما بين 1960 و1970 سيبدأون فى التقاعد بحلول عام 2021. وأوضحت الأرقام أيضا أن عدد العمال الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و34 عاما سيقل سنويا بدءا من عام 2021، ومن الممكن أن يصل الانخفاض إلى 11 مليونا كل عام اعتبارا من 2022 وحتى عام 2025. طفل هدية رغم أن سياسة الطفل الواحد كانت سببا دائما تستغله بعض الدول للهجوم على الصين، باعتبار أنها سياسة ضد حقوق الإنسان، إلا أن الصين لم ترضخ لهذه الضغوط جميعا، وتعتقد أن هذه السياسة كانت سببا فى تحقيق تقدم الصين بالسيطرة على الانفجار السكاني، وجاء القرار الصينى استجابة للدراسات والمخاوف من تفاقم السلبيات، التى بدأت تظهر مع الطول النسبى لتطبيق سياسة الطفل الواحد دفعت الحزب الشيوعى الصينى إلى المناقشة والوصول إلى قرار إنهاء سياسة الطفل الواحد، كنوع من إيجاد الحلول لهذه السلبيات وغيرها، ورغم أن هذا القرار كان متوقعا أن يصدر فى يوم ما، لكنه لم يكن متوقعا أن يصدر بهذه السرعة، حيث سبق وأعلن عدد من المسئولين الصينيين قبل أشهر أنه لا يوجد جدول محدد لإنهاء سياسة الطفل الواحد، وعلى الجميع الالتزام بها. وقد تباينت ردود فعل الصينيين على القرار، وظهر ذلك من خلال النقاشات على تطبيق التواصل الاجتماعى الصينى "ويتشات" وغيره من المواقع الاجتماعية، التى ساعدنى عدد من الأصدقاء الصينيين فى ترجمة ما يكتبه روادها، فمنهم من رحب بصدور القرار وأعلن أنه سينجب الطفل الثاني، ومنهم من تحدث عن أن ظروف الحياة أصبحت تجعل من الطفل الثانى عبئا. وقد لخصت هذه الحالة "فلورنس"، التى تعمل فى مكتب الصحافة التابع لحكومة مقاطعة جواندونج جنوب شرق الصين، وكانت مرافقة لى مع عدد من الصحفيين لحضور مؤتمر بالمقاطعة وقت صدور القرار، فحينما سألتها عن رأيها فيه قالت: "القرار لا يعنى أن جميع الصينيين سينجبون الطفل الثانى غدا، فهناك متغيرات كثيرة وأشياء يجب حسابها قبل هذه الخطوة، الصينيات تعملن الآن فى وظائف وعملهن ضرورى للمساهمة مع الزوج فى أعباء الحياة، فإنجاب طفل يتطلب وقتا ومالا، وبالنسبة لى فعندى طفل واحد عمره 3 سنوات الآن، رغم أننى وحيدة وزوجى وحيد والديه، وبالتالى كانت لدينا فرصة إنجاب الطفل الثانى حتى قبل هذا القرار، لكننا لم ننجب غير طفلنا، صحيح أن أفضل هديه يمكن أن نقدمها للطفل هو أخ أو أخت يلعب معه، فنحن الصينيين الذين ولدنا بعد تطبيق سياسة الطفل الواحد نفتقد وجود أخ أو أخت وكذلك أبناؤنا يفتقدون أيضا ابن وابنة العم أو الخال. وأضافت من سيستفيدون من هذا القرار هم الأمهات اللاتى قاربن على سن الأربعين وكن تنتظرن هذا القرار لإنجاب طفل قبل تقدمهن فى السن، لكن السيدات من الأعمار الأصغر سيجرين حساباتهن الخاصة قبل الإقدام على هذه الخطوة.