تثير النتائج السيئة التى حدثت فى البلاد وخاصة الإسكندرية خلال الأيام الماضية،نتيجة للطقس السيئ وما نجم عنه من خسائر بشرية ومادية، العديد من التساؤلات لا تتعلق فقط بأدوار ومهام المحليات والجهات التابعة لها، ولكن وهو الأهم أولويات الإنفاق العام فى مصر، وبعبارة أخرى هل ما حدث بالإسكندرية خلال الأيام الماضية يعود لنقص الموارد أم لسوء توزيعها، وهذا التساؤل هو مربط الفرس فى هذا الموضوع المهم فمن المعروف أن تحديد الحجم الأمثل للإنفاق العام يتوقف على طبيعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة. إذ أن مشكلات الإنفاق لا تنشأ فقط نتيجة لعدم ملاءمة مستوى الإنفاق وهيكله ولكن أيضا نتيجة للمشكلات الإدارية فى السيطرة على الإنفاق. وقبل أن نتطرق لهذه المسألة لابد من التذكير بان معظم أبواب الإنفاق العام فى الموازنة تذهب الى الأجور وفوائد الدين العام والدعم ولا يتبقى إلا النذر اليسير لإنجاز المهام الاجتماعية الأخرى فمثلا هبطت نسبة المنفق على الصيانة فى الحسابات الختامية من 6٫7% من إجمالى مصروفات عام 2011/2012 الى 4٫9% من إجمالى مصروفات عام 2013/2014 حيث وصل الى 35 مليار جنيه من إجمالى مصروفات بنحو 701 مليار وعلى الرغم من زيادته فى موازنة العام المالى الحالى الى 5٫9 مليار جنيه من إجمالى قدره 864٫5 مليار( اى نحو 6٫8% ) فإننا نرى ان الختامى سيكون اقل من ذلك نتيجة لطبيعة ما جرى على مدى السنوات الماضية فهذا البند رغم أهميته القصوى فإنه لايحظى إلا باهتمام ضئيل للغاية عند مناقشة مشروع الموازنة بالبرلمان أو بالمجالس المحلية، نتيجة للتركيز على الأبواب الأخرى خاصة الأجور، حيث أصبحت الموازنة لا تتحمل فقط بأعباء أجور العاملين بالجهاز الإدارى للدولة والهيئات الخدمية والمحليات، كما يفترض ولكنها تعدتها لتشمل العديد من الجهات الأخرى (كبعض الهيئات الاقتصادية وشركات قطاع الأعمال العام وغيرهما) والتى تحصل على أجورها من أبواب مختلفة وبمسميات أخرى، نتيجة لعجز هذه الجهات عن تغطية اجورها وهكذا فبدلا من أن تكون مصدرا للدخل أصبحت عبئا على الموازنة العامة للدولة واختلت الأولويات تماما.وأصبح من الصعوبة بمكان على صانع السياسة المالية أن يستخدمها فى تحقيق الأهداف التنموية التى تصبو إليها البلاد، وانحسر دوره فى تدبير الأموال اللازمة لدفع فوائد الدين العام وفاتورة الدعم والأجور. وهكذا فعلى الرغم من اتفاق الجميع على أن الإنفاق على القطاعات الاجتماعية كالصرف الصحى والتعليم والصحة يسهم مباشرة فى تحسين نوعية الحياة ويؤدى إلى جودة النمو. اذ لا يعد النمو الاقتصادى مهما فى حد ذاته ما لم يكن مصحوبا بتنمية حقيقية لقدرات البشر تنعكس فى النهاية فى مستوى معيشة لائق وحياة مديدة خالية من الأمراض. إلا أن مناقشة أولويات الإنفاق لا تعكس هذه المسألة، حتى فى ظل وجود البرلمان. وهنا تطرح عدة تساؤلات أساسية أولها كيف يمكن تحسين تخصيص الإنفاق العام؟وماهى المبادئ والمعايير التى يجب الاسترشاد بها عند تقدير مستوى وتركيب الإنفاق العام؟ ثم أى الفئات المجتمعية التى تستفيد من مختلف عناصر هذه البرامج؟ وهذه التساؤلات توضح مدى ارتباط الإنفاق العام بقضية التنمية فى المجتمع.وهنا قد يرى البعض أنه كلما زاد حجم الإنفاق العام، كانت الخدمات المقدمة أفضل وأحسن. وهذا القول غير صحيح على الإطلاق إذ أن تخصيص اعتمادات أكبر فى الموازنة لا يعنى بالضرورة تقديم خدمات أفضل فالعبرة هنا بالسياسة الاتفاقية بالمجتمع. لذلك فإن تركيب وهيكل الإنفاق العام لا مستواه هو المهم من وجهة نظرنا هذه. وبالتالى أهمية العمل على تحقيق فاعلية الإنفاق العام عن طريق ضمان التأكد من أن هذا الإنفاق يذهب فى الغرض المخصص له فقد تتوافر الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، مجانا وبكميات ونوعيات مناسبة، ولكن لأسباب معينة لا يستطيع الفقراء الوصول إليها إما لأنهم أفقر من أن يتحملوا التكاليف المصاحبة للاستفادة بهذه الخدمات (مثل فقدان الدخل) أو تكاليف الدواء أو المستلزمات المدرسية أو تكاليف الانتقال إلى مكان هذه الخدمة وهى الأمور التى ينبغى أن تتوجه إليها الاهتمامات فى عملية الإصلاح. وقد دار جدل كبير حول أيهما الأقدر على تقديم الخدمات الاجتماعية هل الحكومة أم القطاع الخاص، أو بمعنى آخر هل يمكن أن تتخلى الحكومات عن دورها فى هذه المجالات؟ واحتلت هذه المسألة مكان الصدارة فى النقاش بعد أن أخذت معظم البلدان بالاعتماد على القطاع الخاص واقتصاد السوق باعتبارهما المحرك الأساسى للنمو. وبدأ البعض يتحدث عن ضرورة اقتصار دور الحكومات على تهيئة المناخ المناسب للنمو الاقتصادى والظروف الاجتماعية المناسبة فقط لا غير، أما ما دون ذلك فيجب أن يُترك للقطاع الخاص. وذلك انطلاقا من أن ارتفاع معدل النمو سوف يؤدى تلقائيا إلى زيادة الدخول مع ما يرتبط بها من تحسن فى مستويات المعيشة وهو ما ينعكس فى تحسين الحالة الصحية والتعليمية للمجتمع بشكل عام. إلا إننا نرى أن هذا التحليل يجانبه الصواب كثيرا من زوايا عديدة أولها إن زيادة النمو فى حد ذاتها لا تعنى زيادة الدخول لجميع أفراد المجتمع، إذ قد يتحقق معدل نمو مرتفع دون أن يصاحبه عدالة فى توزيع الناتج بين مختلف فئات المجتمع. وبالتالى حرمان قطاع عريض من المواطنين من قدرتهم على تحمل تكاليف العلاج أو التعليم وغيرهما. وثانيهما: إن زيادة الدخول فى حد ذاتها لا تضمن التأثير على الحالة الاجتماعية إذ أن هذه الأمور تتطلب سياسات أخرى أبعد من معدل النمو.والأهم من ذلك أن الخدمات الاجتماعية تقع ضمن ما يطلق عليه فى علم المالية العامة االسلع العامة»، وهى السلع التى لايمكن إنكارها على أى شخص بمجرد إنتاجها، ولا يؤدى استخدام شخص ما لها إلى إنقاص استخدامها من جانب الآخر مثل مكافحة الأمراض المتوطنة وعلاج انتشار الأوبئة وغيرهما. من هنا فقد أضحى تحسين الحالة الاجتماعية وتوصيل الخدمات إلى كل المواطنين مسئولية أساسية للحكومات. وهكذا وعلى الرغم من التغير الذى طرأ على دور الدولة، ممثلا فى انحسار دورها الاقتصادي، فإنها مع ذلك تظل مسئولة عن التعليم والصحة والمرافق العامة، وكذلك الاستثمار فى خدمات الرعاية الصحية الأساسية، والنهوض بالأحياء الفقيرة، بدلا من إقامة مساكن جديدة للطبقات العليا فى المجتمع فقط. اذ ان الإنفاق العام على الجوانب الاجتماعية يزيد من رأس المال. ومن هنا يتمثل التحدى الذى يواجه الإنفاق العام فى ضمان مستوى من الإنفاق يتسق مع الاستقرار الاقتصادى الكلى ثم يتم بعد ذلك هيكلة الإنفاق كجزء من الإصلاح الشامل. وهذا لا ينفى بالطبع أهمية العمل على تحقيق فاعلية الإنفاق العام عن طريق ضمان التأكد من إن هذا الإنفاق يذهب فى الغرض المخصص له. من هذا المنطلق يمكننا التعامل مع مسألة الإنفاق العام ودوره فى المجتمع المصري، وهو ما يتطلب تحديد المستويات المثلى لهذا البند، ويتوقف ذلك أيضا على عدة عوامل أساسية يأتى على رأسها طبيعة التطور الاقتصادى والاجتماعى فى المجتمع ككل. وهنا يأتى الحديث عن كفاءة هذا الانفاق وعدالته. ونقصد بالعدالة هنا تحقيق التكافؤ الحقيقى فى الفرص المتساوية للحصول على الخدمة وذلك بتوزيع الانفاق العام بشكل متساويا وفقا للاحتياجات الاجتماعية لكل منطقة جغرافية والعمل على الوصول إلى الأماكن المحرومة منها.وهى كلها أمور تتحقق عند صنع الموازنة العامة للدولة الأمر الذى يتطلب الاهتمام بها ومناقشتها جيدا حتى تخرج فى النهاية معبرة عن أهداف وطموح المجتمع. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي