كانت الصدفة وحدها, هي التي جعلت المرء يتابع عن كثب بعضا من هذا المشهد المثير, والذي جرت وقائعه في اجواء مدينة بطمان البعيدة شرق الأناضول. حيث شاهدت جماهير غفيرة باعجاب شديد جزءا من التجارب الفنية علي طائرات التجسس الست بدون طيار الاسرائيلية الصنع, والتي استلمها الجيش التركي مؤخرا وهم يرون الضباط الاتراك يسيرونها بأجهزة التحكم عن بعد. وخلال الشهرين القادمين علي اقصي تقدير, ستتسلم القوات التركية الدفعة الثانية والاخيرة وتشمل4 طائرات من نفس الطراز هيرون. وعلي الرغم من بعض العثرات التقنية التي قد تظهر في الاسلحة التي يتم استيرادها من الدولة العبرية, إلا ان القائمين علي الشئون العسكرية في العاصمة أنقرة لايضعونها حجر عثرة في مسيرة التعاون المتنامية والمهمة بمجال التصنيع العسكري بين البلدين, وتأكيدا علي ذلك ستشهد مدينة قيصري( مسقط رأس الرئيس عبد الله جول) وسط تركيا احتفالا خلال شهر ابريل القادم, يتم فيه اعادة تسليم صفقة دبابات تم اصلاح عيوب بها بمعرفة الخبراء الاسرائيليين, وبالتزامن مع قدوم الربيع ستعاود خطوط طيران العال ومعها شركات تركية خاصة, رحلاتها بين اسطنبول وتل ابيب, يحدث هذا بعد خريف طويل كسي فضاء الدولتين, بضباب كثيف خيل معه انه لن يفسح ابدا مجالا للشمس أن تشرق! فالصخب كان عنوانا عريضا ومازالت اصداؤه تعتمل في أركان مختلفة هنا او هناك فمن الباشباكلنك مقر الحكم بوسط انقرة انطلقت عبارات تندد بالاحتلال الغاشم, والسياسات الاستيطانية الهوجاء, وقد تعهد رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان شفهيا امام امناء الحزب الحاكم بعموم المحافظات والمدن بالاستمرار بعدم تطبيع العلاقات مع اسرائيل الي ان تنتهي المأساة الانسانية في غزة في الوقت ذاته كان داود اوغلو يدلي في المانيا بتصريحات بدت عاطفية اكثر منها واقعية متسائلا: كيف لي ان اجلس بجانب ايالون هذا الرجل الذي اهان السفير التركي؟ كلا وألف كلا لن اعطيه شرف الجلوس بجانبي, جاء هذا علي هامش المؤتمر الامني الذي عقد بميونيخ الالمانية قبل اسابيع قليلة, ثم تطرق أوغلو الي حلمه وحلم بلاده في العيش بمنطقة خالية من السلاح النووي بدون استثناء في اشارة الي اسرائيل, ومضي متمنيا ان يسود السلام والاستقرار بالشرق الاوسط, وان يأتي المواطن الاسرائيلي ومعه السوري عن طريق دمشق الي اسطنبول بسيارتهما!! ونترك الخيال جانبا وان كانت دلالته واضحة, الا وهي عين في النار واخري في الجنة, فضلا عن انها تكشف بعضا من التناقض في اداء السياسة الخارجية التركية, اما في ارض الميعاد فقد تصدر افيجدور ليبرمان حملة الغضب موجها الاتهامات بمعاداة السامية للنخب المدنية الحاكمة في وريثة الامبراطورية العثمانية, وفي سياق التقليل من مكانة الاناضول اشار احد المواقع الالكترونية الاسرائيلية إلي أن إسرائيل يمكن ان تذهب وتخترق اي اجواء دون ان يشعر بها احد, مدللا علي زعمه بان طائرتي تجسس اسرائيليتين اخترقتا ليلة السابع عشر من الشهر السماء التركية بدون الحصول علي رخصة مسبقة لكن الجيش سارع واوضح للخارجية الامر برمته, وان هيئة الاركان كانت علي علم مسبق, وانها اعطت الاذن للطائرتين وهذا ملمح اخر من العلاقات الشائكة لابين اسرائيل وحكومة العدالة فحسب بل بين الاخيرة ومؤسستها العسكرية. نفس الواقعة حدثت قبل سنوات, وتحديدا في السادس من سبتمبر عام2004, وخلال زيارته في اكتوبر من العام نفسه للقدس بصفته وزيرا للخارجية حاول علي باباجان والذي يشغل حاليا نائب رئيس الحكومة وزير المالية خلال لقائه بكل من ايهود اولمرت رئيس الحكومة الاسرائيلية السابق ووزيرة خارجيته حينذاك تسيبي ليفني الحصول علي اجابة حول اختراق الطائرات الحربية الاسرائيلية اجواء بلاده ولكن محاولاته باءت بالفشل وقيل ان اردوغان نفسه عرف بذلك من الميديا التي نقلت الخبر من نظيرتها في الدولة العبرية, وقالت هاآرتس إنه تم اخذ الاذن من رئاسة الاركان التركية وهذا ما حدث بالفعل! والحق والقول هنا ل قدري جورسال في مقالة له بصحيفة ميلليت بعددها الصادر في تاريخ14 اكتوبر2007, ان ثمة تضاربا بين سياستي الحكومة والجيش بشأن قضايا المنطقة كلها, فالجيش ينظر اليها من منظور قومي وطني, في حين ان الحكومة لها منطلقات اخري ويبدو ان العدالة الحاكم اراد بشكل او باخر ان يعتذر كون بلاده كانت سباقة في الاعتراف باسرائيل بعد اقل من سنة علي قيامها عام1948 وهكذا حرصت علي التعاون بين الدول الاسلامية, ونهج سياسة مؤيدة للدول العربية في صراعها مع اسرائيل وتتفق في الوقت نفسه مع رأي عام صار مشحونا ضد ما يحدث في فلسطين والتوتر الحاصل بين الجيش والحكومة حتي وان انصرف علي قضايا الداخل, الا انه لايمكن فصله عن مجمل هواجس يختزنها كل طرف تجاه الاخر. ان لغة المصالح امر حيوي لقطاعات نافذة في المجتمع التركي وهؤلاء تخاطبهم دائما إسرائيل بطريقة او باخري, وحرص كل مسئول اسرائيلي زار انقرة خلال الأشهر الثلاثة الماضية بدءا من بنيامين اليعازر مرورا بايهود باراك وإنتهاء بحاييم اشكنازي علي زيارة آنك كبير ووضع باقة زهور علي ضريح اتاتورك ما هو الا رسالة تصب في ذلك التواصل الذي لايمكن ان ينقطع.