قد تتصاعد وتختلف توقعات المحللين للمشاركة فى الانتخابات البرلمانية، فالبعض يرى أنه بالرغم من انحسار مساحة المجال العام، أو تراجع الشأن العام، فإنه من المتوقع مشاركة نحو 40% من المقيدين فى الجداول الانتخابية.. بينما البعض الآخر وأنا منهم أتوقع انخفاض نسبة المشاركة فى هذه الانتخابات، لا يعود السبب إلى ما يطلق عليه «الإجهاد الانتخابي» نتيجة لتعدد وتتابع التصويت خلال السنوات القليلة الماضية (7 استحقاقات انتخابية)، وإنما لسبب آخر رئيسى يتعلق بحالة «الإحباط المجتمعى فى اللحظة الحالية.. إن المراقب للمشهد العام فى مصر منذ ثورة يناير، ثم ثورة يونيو التى هبت لإعادة الروح المصرية فى مواجهة الإخوان المسلمين، مرورا بالمرحلة الانتقالية، وانتخاب الرئيس السيسي، سوف يرصد تراجع مساحة اهتمام المواطن المصرى بالشأن العام. هذا «التراجع» فى الاهتمام بالشأن العام يتخطى بكثير المشاركة فى الانتخابات البرلمانية، أو متابعة المرشحين لها، وإنما تمتد إلى كل ما له علاقة بالحياة العامة، والتركيز «الضيق» على الحياة الشخصية وتوفير المتطلبات الأساسية للحياة.. من المؤكد أن هذا التراجع يرتبط جزئيا- بتوجهات الأمن لتضييق المجال العام، وتقييد الحريات، وهو منهج يعود بنا إلى مقولة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» والمعركة هنا مع الإرهاب، وهو توجه نبه إليه الكثيرون. إذ أن التحرك للقضاء على الإرهاب وعلى التطرف، لن ينجح إلا بفتح أبواب «المجال العام» وتوفير الحريات. إلا أن هناك اعتبارات أخرى تفسر لنا التراجع المجتمعى فى الاهتمام بالشأن العام، وهو ما يدفع إلى التوقع أن ذلك سينعكس سلبا على المشاركة فى الانتخابات... وبصفة مبدئية وللتدليل على ذلك، فإن المشاركة الهزيلة فى انتخابات نقابة الأطباء فى جميع المحافظات (الجمعة الموافق 9 أكتوبر 2015)، شهدت مشاركة 6% فقط من الأعضاء الذين لهم حق الانتخاب، وهو ما يحدث للمرة الأولى فى تاريخ نقابة الأطباء. إن هذا «الانحسار» فى الاهتمام بالشأن العام، يمكن تفسيره بعدة اعتبارات مهمة تتطلب التعامل الواعى معها فى نفس الوقت، إذ أنها تشكل إطارا للتعامل مع «حالة إحباط مجتمعية» أثرت سلبا على الاهتمام بالمجال العام... لعل أول هذه الاعتبارات هى افتقاد التدفق المعلوماتى الحر، الذى يتسم بالشفافية، بخصوص غالبية التحديات السياسية والاقتصادية، التى تشهدها مصر فى اللحظة الحالية... ومما يزيد الوضع سوءا تزايد تصريحات المسئولين، وتناقضها فى الوقت ذاته، و«إغراق» المجتمع بالوعود والتصريحات المتتالية التى لا تجد لها سندا فى الواقع، أو فى المستقبل القريب، مما يجعل من العزوف والسلبية «أفعالا إيجابية» تعكس موقف البعض فى مواجهة هذا «الإغراق». بالطبع ففى هذا الوضع الذى تغيب عنه المعلومات الدقيقة المحددة الشفافة، فإن الباب يفتح بالكامل «لجوقة من الإعلاميين» ومعهم من يطلقون عليهم الخبراء والمحللين الاستراتيجيين، للحديث فى كل شىء وأى شىء، فى «مشهد عبثى» لم نشهد له مثيل... إذا أضفنا إلى ذلك زمستنقعس الألفاظ والإهانات والاتهامات بالخيانة والعمالة، فى غالبية برامج الفضائيات، سوف نفسر ببساطة زالقرار العقلانيس لبعض ذ وهم كثيرون- شرائح المجتمع وقياداته الفكرية، للعزوف عن المشاركة فى الحياة العامة... وبالطبع يعمق من هذا الخلط والتناقض والتشويش وفى غياب معلومات تتسم بالمصداقية والشفافية - الإعلام الالكترونى وأدوات التواصل الاجتماعى. وإذا كان غياب افتقاد التدفق المعلوماتى الشفاف، هو أول العوامل فى اعتقادى المسئولة عن انحسار الاهتمام بشأن العام, فإن الملامح الحالية لما نطلق عليهم «النخبة» من السياسيين والمفكرين والمثقفين، تفسر لنا وببساطة - الحالة المجتمعية العازفة عن الاهتمام والمشاركة.. وإذا ركزنا على أوزان الأحزاب السياسية، وتفاعلاتها، سوف نرصد أكثر من مائة حزب سياسى (105 احزاب)، يصعب على أساتذة العلوم السياسية تذكر - أو معرفة- أكثر من عشرة أسماء، إذن عدد الأحزاب السياسية ليس مؤشرا بأى حال من الأحوال للعملية الانتخابية أو التحول الديمقراطي.. إن غالبية هذه الأحزاب ليس لها قواعد جماهيرية، وتعانى فى أغلبها من الضعف وكثرة الانشقاقات الداخلية والصراعات، سواء داخلها أو بين بعضها والبعض الآخر. وهو ما يجعلها «هشة للغاية» أمام المواطن المصري، تفتقد إلى برامج وإلى مصداقية تجتذب الناخب... وهذه الملامح التى تتسم بها غالبية الأحزاب السياسية، إن لم يكن جميعها، تعمق من نمط التصويت القائم على الانتماءات الضيقة، اعتمادا على العائلة والعصبية أو تحقيق منافع خاصة، أو القائم على أساس الدين «وإرضاء الله» وفقا لدعاوى التيارات الدينية السلفية.. إذا أضفنا فى تفسيرنا لحالة «الإحباط المجتمعية» السائدة، حالة «الوهن والضعف» التى أصابت غالبية منظمات المجتمع المدنى فى مصر خلال السنوات القليلة الماضية، واقتصار دور المنظمات النشيطة منها - التنموية والحقوقية- على الدخول فى التحالفات لمراقبة الانتخابات، فإن ذلك يشير إلى غياب دورها فيما قبل فى توعية وتثقيف الجماهير للمشاركة الجماهيرية فى الانتخابات. ناهيك عن تراجع الدور الثقافى التنويرى، الذى تميزت به مصر خلال العقود المتتالية... لقد انسحبت «القامات الثقافية» من المشهد العام، وتقدمت «الأقزام» - التى تدرك ذاتها باعتبارها «قمم»- لملء الفراغ فى الفضائيات والإعلام الاجتماعى وفى التسويق الانتخابى لشخصيات و«جبهات» فى «خلطات» لا نعرف كيف توافقت معا، تضم أصحاب المال، ورموز أحزاب ما قبل ثورة يناير، ونشطاء الثورات، وتيارات دينية إسلامية، وأقباط بداخلها... أنها حالة «تشوه» سياسى واجتماعى، تدفع إلى القول إن «العقلاء والمحترمين يمتنعون» بدلا من القول «الوسطاء يمتنعون» فى عمليات السوق للبيع والشراء. لمزيد من مقالات د. امانى قنديل