بعد أن مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ليالٍ في غار ثور، خرج بعد أن خزل الله الكفر وأهله، وبعد قال الصديق رضي الله عنه: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال له الصادق المصدوق قولة الواثق من نصر الله: "ما بالك يا أبا بكر باثنين الله ثالهما". وصدق ربنا سبحانه حيث قال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]، ما بالنا حقًّا باثنين الله ثالثهما؟! ومضت الرحلة المباركة من مكة إلى المدينة وخرج الرسول الكريم وصاحبه متوجهين إلى ساحل البحر الأحمر في طريقهما إلى المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال بعد أن خرج من مكة: "والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وإنك لأحب البلاد إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجتُ"، خرج من مكة مع حبه لوطنه الغالي، وهو حفيد عبد المطلب سيد مكة، خرج تاركًا الدنيا كلها وارءه، راغبًا في الأخذ بأيدي البشرية من الظلمات إلى النور، باحثًا عن بيئة تحتضن هذا الدين الحنيف؛ كي يربي الرجال الذين سيحملون مشاعل النور إلى الأرض كلها بعد ذلك، والذين سيحطمون الظلم وأهله، وينشرون العدل في الأرض، ولا يتركون المظلوم حتى يأخذوا حقه ممن ظلمه، الذين سيسقطون إمبراطوريتي كسرى وقيصر ليقيموا دولة العدل وينشروا النور الذي جاء به النبي العدنان. وعادت صناديد قريش من غار ثور يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، ثم صاحت الجاهلية قائلة "من يأتي بمحمد حيًّا أو ميتًّا له مائة ناقة"، وهنا انبرى فرسان قريش لنيل الجائزة وخرج فارسهم الهمام سراقة بن مالك صارخًا: "أنا آتيكم بمحمد"، وركب فرسه متتبعًا أثر النبي الكريم وصاحبه، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا ربه، فغاصت أقدام فرس سراقة في الرمال، معلنة هزيمة قريش أمام نصرة الله لأوليائه، وهنا رفع سراقة يديه معلنًا استسلامه طالبًا الأمان من رسول الله، أعطاه الأمان وقال له "خزل عنا"، وقال له يا سراقة: "أبشر بسواريّ كسرى"!!، سراقة الفتى الهمام الشجاع شنفت أذنيه هذه البشرى، سوراي كسرى؟؟! ملك الفرس؟! لي أنا الأعرابي الذي خرج يلهث من أجل مائة ناقة؟! يا لها من بشرى، يا لها من عقيدة متينة فيما عند الله، إنه الوثوق بما في يد الله، إنه الإيمان بأن الله ناصرٌ رسوله لا محالة، وليس هذا فحسب، بل سيسود هذا الدين الوليد إمبراطوريتي كسرى وقيصر، وقد كان في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد معركة القادسية وبعد أن فتح الله بلاد الفرس علىى أيدي المسلمين جيء بسواري كسرى من الذهب الخالص، فنادى عمر بن الخطاب في الناس قائلا: "أين سراقة بن مالك؟ قال ها أنا يا أمير المؤمنين، قال: هذا ما وعدك به رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فأخذ سراقة السوراين اللذين صُنعا من الذهب الخالص وراح يطوف بهما في الناس قائلا: هذا ما وعدني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن نكون واثقين فيما عند الله كما علمنا رسول الله، وألا ننسى قولة ابن رحمه الله: "من ظنَّ أن الله سينصر الباطل على الحق فقد أساء الظن بالله". لمزيد من مقالات د . جمال عبد الناصر