محصلة أي صراع في أي مرحلة من مراحله هي محصلة ميزان القوة بين أطراف هذا الصراع, ونتيجة المفاوضات بين أطراف متصارعة تعكس بالأساس ميزان القوة بينها. هذه حكمة قديمة ستظل صالحة ما دامت هناك سياسة داخل الدول فيما بينها. فبدون القوة وميزانها لا توجد هناك سياسة, أما دور القوة فإنه سيظل قائما مادامت هناك سياسة القوة, مع هذا, مفهوم مركب جدا لا يمكن اختزاله في أحد أو بعض عناصره. فهناك القوة العسكرية والاقتصادية والسكانية, وهي عناصر يمكن الإمساك بها وحصرها وإحصاؤها. وهناك أيضا القوة الأخلاقية التي تعني القدرة علي التلاعب بمشاعر وقيم ومبادئ أطراف المجتمع المحيط بأطراف الصراع, والذي يمكن الحصول منه علي الدعم السياسي والمعنوي والمادي بطريقة تؤثر في موازين القوة ومحصلة الصراع. أهم ما يميز المرحلة الراهنة هو وجود وضع دولي ضاغط من أجل تحقيق تقدم نحو حل للقضية الفلسطينية, يرتبط هذا بتدهور المكانة والسمعة الدولية لإسرائيل بشكل لم يحدث منذ بداية الصراع. مظاهر التدهور الذي لحق بالمكانة والسمعة الإسرائيلية عديدة ومتكررة, ولعل أهم مظاهرها موجة الانتقادات التي وجهت لإسرائيل بسبب الحرب علي لبنان في صيف عام2006, ثم بسبب الحرب علي غزة قبل أكثر قليلا من عام, وهي الانتقادات التي وصلت إلي ذروتها في التقرير الشهير المعروف بتقرير جولدستون. كما نجد أدلة علي تراجع المكانة الإسرائيلية في الاحتجاجات التي خرجت في عواصم غربية عادة ما تم اعتبارها أرضا صديقة لإسرائيل. كذلك تبين متابعة الإعلام الغربي_ بما في ذلك الإعلام الأمريكي- أن توجيه الانتقاد لإسرائيل وسياساتها لم يعد من المحظورات التي لا يمكن ارتكابها, وأن الحجج التقليدية التي اعتاد أنصار إسرائيل في الغرب استخدامها للدفاع عن قضيتهم لم تعد متواترة الاستخدام كما كان الحال في الماضي. وارتبط بكل هذا تحولات مهمة في مواقف أطراف دولية رئيسية تجاه إسرائيل, لعل أهمها قرار الاتحاد الأوربي بتأجيل مواصلة مفاوضات الشراكة الاقتصادية بين إسرائيل والاتحاد الأوربي للمرة الثانية خلال عام. ومن المهم أن نلاحظ أنه عندما يدور الحديث عن الاتحاد الأوربي, فإنه يدور ضمنيا عن مواقف دول اعتادت أخذ الجانب الإسرائيلي, أو كانت لديها حساسية خاصة إزاء توجيه الانتقاد لها, الأمر الذي ينطبق بشكل خاص علي بلد أوروبي رئيسي كألمانيا, وهو ما يعكس تحولات يصعب التقليل من شأنها في مواقف هذه الدول. البيان الصادر قبل أيام قليلة عن اللجنة الرباعية الدولية هو دليل إضافي علي مواصلة إسرائيل خسارتها لأرض سياسية ومعنوية كانت قد كسبتها في عقود سابقة, كما يعكس مدي الإلحاح الدولي لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي, ويلخص طبيعة الموقف الدولي تجاه القضية الفلسطينية. تحدث قرار الرباعية الدولية عن إقامة دولة فلسطينية, ربما لا يكون هذا جديدا, لكن الجديد في القرار هو ما جاء فيه من مدي زمني لا يزيد علي عامين لقيام هذه الدولة. فهذه هي المرة الأولي التي تقترح فيها هيئة دولية معنية سقفا زمنيا للانتهاء من المفاوضات والتوصل لاتفاق نهائي, وهو المطلب الذي طالما تبنته القيادة الفلسطينية. المرة الوحيدة السابقة التي كان لدينا فيها إطار زمني محدد يتعلق بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تمثلت في اتفاق أوسلو الثنائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين, والذي لم يتضمن التزاما من جانب أي أطراف دولية. بالإضافة إلي ذلك فإن اتفاق أوسلو انطوي علي غموض في نصه علي مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات تبدأ قبل نهايتها مفاوضات الحل النهائي دون أن يحدد طبيعة المرحلة النهائية التالية للمرحلة الانتقالية, فحتي توقيع اتفاق أوسلو لم يكن هناك إجماع مثل ذلك القائم الآن علي أن الدولة الفلسطينية المستقلة هي الحل النهائي الوحيد المقبول لقضية الشعب الفلسطيني. وقد طالب بيان الرباعية الدولية, بالإضافة إلي ذلك, بوقف الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية, بما في ذلك ما تسميه إسرائيل نموا طبيعيا للمستوطنات, وأدان قرار الحكومة الإسرائيلية بناء وحدات إسكانية جديدة في القدس, وهو أكثر مواقف الانتقاد الصادرة عن أطراف دولية صراحة بشأن الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة خاصة القدس. ويكتسب بيان الرباعية الدولية أهمية إضافية بسبب موافقة الولاياتالمتحدة علي هذا البيان وتبنيها له, الأمر الذي يعكس لجوء واشنطن للآليات الجماعية للتعبير عن مواقف لا تسمح علاقتها الخاصة بإسرائيل بتبنيها, وفي هذا خروج_ ولو كان محدود التكلفة- علي سياسة أمريكية تقليدية التزمت الولاياتالمتحدة بمقتضاها بحماية إسرائيل في المحافل الدولية, وفي هذا إشارة فهمتها إسرائيل بأن رفع الحماية الدبلوماسية الأمريكية عن إسرائيل لم يعد أمرا مستبعدا, وإن كان من غير المتوقع له أن يحدث في القريب العاجل. المأزق الدبلوماسي والسياسي الذي تواجهه إسرائيل في علاقتها بالمجتمع الدولي هو نتيجة طبيعية لتدهور المكانة والنفوذ الأخلاقي لإسرائيل في العالم. فبعد عقود تعاطف فيها العالم مع مزاعم إسرائيل حول واحة الديمقراطية الصغيرة التي يسعي جيرانها في الشرق الأوسط لتدميرها, لم يعد بإمكان إسرائيل وضع نفسها وسياساتها علي أرضية أخلاقية عالية وصلبة بعد أن شاهد العالم وحشية الاحتلال الإسرائيلي, وبعد أن بات واضحا أن إسرائيل ليست هي هذا الطرف الضعيف الذي يحلم بالعيش في سلام مع جيران يرفضون منحه هذه الفرصة. بالإضافة إلي ذلك فإن إسرائيل التي اعتادت تقديم نفسها باعتبارها موقعا متقدما للحضارة الغربية في قلب الشرق الأوسط لم يعد بإمكانها مواصلة هذا الادعاء بنفس القدر من المصداقية بسبب زيادة نفوذ التيارات الدينية والقومية المتشددة في المجتمع الإسرائيلي, وهي نفس التيارات التي تمثل العقبة الأهم في سبيل تحقيق السلام في الشرق الأوسط. فالمجتمع الإسرائيلي يتحول تدريجيا إلي مجتمع متعصب دينيا وقوميا, في وقت تتجه فيه المجتمعات والثقافة الغربية, خاصة في أوروبا, لتصبح أكثر ليبرالية وتحررا بأشكال ودرجات لا تسمح لإسرائيل بمواصلة ادعاء تماهيها مع القيم والثقافة الغربية. المفارقة الأساسية التي علينا إدراكها والتعامل معها هي أن خسارة إسرائيل لمكانتها ونفوذها الأخلاقي لا يقابله تحسن مساو في الرصيد الأخلاقي للجانب الفلسطيني. فالانقسام الفلسطيني بين قوميين وإسلاميين, وبين فتح وحماس, وبين حكومتين وإقليمين أحدهما في الضفة الغربية والآخر في غزة, لا يسهم في تقديم الطرف الفلسطيني وقياداته في صورة الطرف الجاد في تحقيق أهدافه الوطنية, والقادر علي التصرف بعقلانية وبغير أنانية أوضيق أفق وفقا لترتيب واضح للأولويات يضع القضية الوطنية في المكان الذي تستحقه علي رأس جدول الأولويات. فالدم الفلسطيني الذي سال في الصراع بين فتح وحماس خلال معركة طرد السلطة الفلسطينية من قطاع غزة, وما أعقب ذلك من ممارسات قمعية وصلت لحد سفك الدماء مجددا, لم تساعد علي تأهيل الفلسطينيين للفوز بالأرض التي خسرتها إسرائيل في عقل وضمير المجتمع الدولي. أيضا, فإن مفاوضات المصالحة المطولة ثم المجمدة بين جناحي الشعب والوطن الفلسطيني لا تسهم في تحسين المكانة الأخلاقية وزيادة الاحترام الدولي للطرف الفلسطيني, خاصة ولسان الحال الإسرائيلي يقول إنه إذا كان الفلسطينيون عاجزين عن الاتفاق فيما بينهم, فمن الطبيعي أن يكون السلام بينهم وبين الإسرائيليين أصعب منالا. التخبط والفساد الذي ساد في أركان السلطة الفلسطينية وجهازيها الإداري والأمني لسنوات طويلة كان من بين العوامل التي ساهمت في تدمير ليس فقط المكانة والسمعة الأخلاقية للطرف الفلسطيني, وإنما أيضا إثارة علامات استفهام جدية فيما يتعلق بمدي جدارة الفلسطينيين بدولة وقدرتهم علي إدارتها بكفاءة وفعالية, بشكل يجعل منها دعامة للاستقرار في المنطقة. وكثيرا ما استخدم الإسرائيليون الإخفاق الفلسطيني في إدارة مؤسسات السلطة الوطنية للتشكيك في أثر قيام دولة فلسطينية علي مجمل الاستقرار في المنطقة, وللتخويف من أن الدولة الفلسطينية قد تتحول إلي دولة فاشلة أخري تضاف إلي قائمة الدول الفاشلة المسببة لعدم الاستقرار في المنطقة. لقد اسهمت وحشية الاحتلال الإسرائيلي وعرقلة إسرائيل لجهود السلام في إضعاف المكانة الأخلاقية_ وبالتالي السياسية- لإسرائيل. غير أن الفلسطينيين لم يستطيعوا احتلال الأرض التي خسرتها إسرائيل دوليا بسبب إخفاقاتهم الخاصة. فقد أتاح الصلف الإسرائيلي للفلسطينيين كسب تعاطف وشفقة المجتمع الدولي, ولكن إخفاقات الفلسطينيين لم تمكنهم من الفوز بقدر متساو من احترام وتقدير المجتمع الدولي. وربما كانت بارقة الأمل الأهم في هذا المجال تأتي من النجاح الملحوظ لخطة رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض لتحقيق الأمن ورفع كفاءة الإدارة ومستويات النزاهة والشفافية في مؤسسات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. فقد حظيت هذه الجهود باحترام وتقدير الكثيرين في المجتمع الدولي. غير أن التحدي الأساسي الذي يواجه هذه الجهود هي أنه مازال ينظر لها علي أنها جهود إدارة تكنوقراطية محترفة أكثر منها جهود قيادة سياسية شرعية لديها تفويض صريح وتأييد شعبي قوي يسمح لها باتخاذ القرارات المصيرية الصعبة التي لا مفر من اتخاذها إذا كان لعملية السلام أن تحقق تقدما حقيقيا.