في كل مرة أعبر نهر ليفي في دبلن عاصمة أيرلندا ومهما كان من يرافقني, فإنه يشير إلي آخر كوبري في كباري المدينة الأربع وعشرين قائلا: إنه كوبري روزي هاكيت, أول كوبري يسمي علي اسم إمرأة. ويضيف مبتسما أنه سمي علي اسمها بالانتخاب, فقد قررت المدينة ولأول مرة أن تستطلع آراء السكان في اسم الكوبري الذي انتهي العمل فيه في مايو عام2014, وحصلت روزي ذائعة الصيت علي أغلبية الأصوات. سمعت هذه القصة أربع مرات في ثلاثة أيام من سائق تاكسي ومرشدين سياحيين ومن زميلة صحفية, وفهمت قيمة أن يشترك الناس في إتخاذ القرارات البسيطة, وفهمت قيمة أن تنال إمرأة حب الجماهير. ................................................................................ وكباري دبلن ليست كأي كباري شاهدتها في مدن العالم, فأولا عددها كبير جدا بالنسبة لحجم المدينة وتعدادها, وثانيا فإن كل منها له قصة, فأحدها مثلا كوبري مربع طوله يساوي عرضه, وألطفها بالنسبة لي هو الكوبري المعروف باسم نصف بنس, أي بالعربي كوبري التعريفة, والتعريفة لمن لا يعرف من قرائنا هي عملة تساوي نصف القرش صاغ, والذي كان معروفا أيام زمان قبل أن يختفي مع زملائه المليم والنكلة, وللعلم فقد كانت زجاجة السينالكو تساوي تلاته تعريفة والرغيف البلدي بتعريفه وذلك منذ حوالي ثلاثين عاما. المهم, لم تكن هناك وسيلة لعبور النهر في عام1816 إلا بركوب المعدية ودفع تذكرة بنصف بنس, وبعدها تقرر بناء كوبري للمشاه علي أن يدفع كل من يعبره تعريفة تذهب كتعويض لصاحب المعدية المسكين وذلك لمدة مائة عام!!! بالإضافة إلي مبلغ ثلاثة آلاف جنيه. والكوبري يزدان بأقواس معدنية جميلة الطراز, وأخبرني ميك لانجن المرشد السياحي أنها قد تم بناؤها خصيصا لمنع ركاب الجياد من الهروب من دفع التعريفة. أما ذلك الكوبري الذي يرتفع بناؤه في سماء دبلن علي شكل آلة الهارب الموسيقية معلقة في السماء, فهو يعلن لمهندسي الكباري بوضوح أن الكوبري ليس مجرد معبر من ناحية لأخري, وإنما هو بناء له معني ورسالة يريد توصيلها. ف الهارب من ناحية هو رمز جمهورية أيرلندا, وقد تم تصميمه معلقا بهذا الشكل لكي يحمل الكوبري أثناء فتحه فيسمح بعبور المراكب ويعاد غلقه مرة أخري. ومن ناحية أخري فالكوبري قد أطلق عليه اسم صمويل بيكيت الكاتب المعروف الحائز علي جائزة نوبل للآداب, وقد اقتبست اللجنة المانحة للجائزة قوله أن أدبه يبحث عن رفعة وسمو الإنسان من خلال عرض بؤسه وهوانه, مما يجعل الهارب المرتفع في السماء خير تعبير عن بيكيت وعن أيرلندا. وكنت أحب أن أكتب عن الأربعة وعشرين كوبري ولكني سأكتفي هنا بكوبري أخير مثقف برضه وهو كوبري جيمس جويس الكاتب الأشهر والذي كان له دور هائل في صياغة الأدب العالمي في القرن العشرين, والذي كتب عن دبلن بالرغم من أنه هاجر إلي باريس وزيوريخ. كانت من أشهر أوائل قصصه, قصة القطة والشيطان والكوبري, وتحكي أن عمدة المدينة المفلسة أراد أن يبني كوبري يربط بين الضفتين حتي ولو تحالف مع الشيطان, الذي جاء إليه وعرض أن يبني له الكوبري مقابل روح أول عابريه. وافق العمدة وبني الشيطان الكوبري. وفي الصباح فتح السكان مصاريع نوافذهم ليجدوا كوبري صخري والشيطان يرقص عليه ويفرك كفيه منتظرا أول العابرين. وقف السكان علي الضفتين يغمغمون وينتظرون. وصل العمدة متبخترا محتضنا قطة في ذراع وجردل مملوء بالماء في ذراعه الآخر, وما أن وصل حتي ألقي بالقط في الجردل فقفز منه في أحضان الشيطان الذي انفجر غيظا, وفي النهاية بنت دبلن كوبريا لكاتبها العظيم, وجاء تصميمه وبناء جانبيه علي شكل ضفتي كتاب مفتوح خير تكريم لجيمس جويس. وهكذا تبني الكباري, معبرة عن فكرة ومعني وبأقل التكاليف وبفن وليست مجرد معبر فوق المياه.