رغم أن القرار الروسى بتعزيز الدعم والوجود العسكرى فى سوريا تم التنويه عنه منتصف سبتمبر، فإن موافقة البرلمان الروسى فى 30 سبتمبر بالإجماع على طلب الرئيس فلاديمير بوتين الخاص باستخدام القوات الجوية الروسية خارج حدود البلاد عامة ومن ذلك سوريا، وبدء الضربات الجوية الروسية على الفور ضد مواقع تنظيم «داعش» الارهابى، أثارت العديد من التساؤلات حول دوافع القرار وتداعياته المحتملة. ويمكن فهم الخطوة الروسية فى ضوء مجموعة من الاعتبارات، يأتى فى مقدمتها انسداد الأفق بشأن التسوية السلمية للأزمة السورية، والتى بدت فى لحظة ما ممكنة فى ضوء الجهود والمساعى المكثفة التى بذلتها روسيا مع جميع الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية المعنية بالأزمة للم الشمل فى مواجهة خطر الارهاب الذى يتهدد الجميع، وكان أخرها لقاء الرئيس بوتين وأوباما على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة والذى لم ينجح فى تحقيق التوافق المأمول بين البلدين. تزامن هذا مع اتجاه واشنطن وباريس وتركيا إلى تكثيف الضربات على سوريا بدعوى مكافحة «داعش» كهدف معلن، وإركاع الدولة السورية وتفكيكها كهدف حقيقى، وإعلان الرئيس الفرنسى فرانسوا هولاند إن بلاده قد تتعاون مع تركيا وأعضاء فى المعارضة السورية لإقامة منطقة حظر طيران فى شمال سوريا، وهو الهدف الذى طالما سعت إليه تركيا لاقتطاع جزء من أراضى سوريا واحتلالها بدعوى محاربة الارهاب. ورغم أن واشنطن حشدت تحالفا يعد الأكبر فى التاريخ ضد مجموعة إرهابية، وقامت على مدى عام منذ إطلاق التحالف بأكثر من تسعة آلاف ضربة جوية فى سورياوالعراق، فإن ذلك لم يؤد إلى أى نتائج تذكر. ولايزال تنظيم «داعش» على الرغم من ضربات الولاياتالمتحدة وحلفائها الجوية، يحتفظ تقريبا بكامل الأراضى التى سيطر عليها فى سورياوالعراق، ولم يختف من الوجود، ولم تضعف سطوته، بل تدل جميع المؤشرات على أنه باق ويتمدد. هذا فى الوقت الذى طال القصف الأمريكى منشآت نفطية ومخازن للحبوب ومحطات كهرباء فى المناطق التى يسيطر عليها التنظيم فى سوريا، الأمر الذى ضاعف من إنهاك الدولة السورية ومعاناة شعبها. لقد فقدت واشنطن مصداقيتها وتحولت الشكوك حول الأهداف الحقيقية لواشنطن، وهل فعلا هى محاربة «داعش» أم إشاعة الفوضى وتقسيم المنطقة، إلى يقين يدعم ذلك التقارير المتداولة حول دور الولاياتالمتحدة فى نشأة «داعش» وتسليحها، وكون واشنطن باركت ظهورها فى العراق عام 2006، أى فى ظل الاحتلال الأمريكى والسيطرة الأمريكية الكاملة على العراق، حتى تأجج الصراع داخل العراق بين السنة والشيعة وتزيد من ضعف ووهن الجسد العراقى الذى تداعى بالفعل آنذاك. وإنها دعمت التنظيم وغيره بالسلاح وسهلت بالتعاون مع تركيا تدفق المقاتلين من أنحاء العالم إلى سوريا وتدريبهم بدعوى دعم الثورة السورية لإسقاط بشار الأسد!. وروسيا بقرارها هذا لا تدعم فقط الدولة السورية وتحول دون تكرار السيناريو الليبى ومن قبله العراقى بها، ولكنها تحمى أمنها القومى من تصاعد التهديد الداعشى وانعكاسات ذلك على الداخل الروسى خاصة مع تنامى صلات التنظيم مع نظرائه فى القوقاز الروسى، وتزايد أعداد المنضمين إلى صفوفه من الروس ودول آسيا الوسطى. فوفقاً لبيانات هيئة الأمن الروسية هناك ما يزيد على 2400 من مواطنى روسيا يحاربون فى صفوف تنظيم «داعش» الإرهابي. ومن ثم فإن خطر داعش لا يتهدد سوريا والمنطقة فحسب ولكن روسيا أيضاً خاصة أن التنظيم أعلن روسيا عدواً له وأعلن «الجهاد» ضدها. وترى موسكو أن القضاء على الارهاب يجب أن يكون من منبته، فى المناطق المفرزة والداعمة له ومنها الشرق الأوسط. وليس من المتصور أن تشارك روسيا فى التحالف الذى تقوده واشنطن حيث أكدت موسكو مرارا رفضها المشاركة فيه انطلاقاً من كونه يفتقر إلى الشرعية وينتهك سيادة بلد مستقل، هى سوريا، ويتجاهل حكومته حيث جاء دون تفويض من مجلس الأمن، ودون موافقة وتنسيق مع الحكومة السورية. هذا فى حين يأتى الوجود العسكرى الروسى فى سوريا بناء على طلب الحكومة السورية وبالتنسيق معها. ويتخوف البعض من أن تعلى واشنطن، كعادتها، مصالحها الضيقة على حساب أمن واستقرار المنطقة، وأن تحاول جر موسكو إلى مستنقع أفغانى آخر فى سوريا، وتقوم بدعم «داعش» أو غيرها لانهاك روسيا والقضاء على فرص صعودها الدولى الذى يؤرق واشنطن كثيراً ويعيق حركتها فى ملفات دولية وإقليمية عدة. فقد كان تدخل الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان بناء على طلب الحكومة الأفغانية الصديقة فى ذلك الوقت لمساعدتها على مواجهة المتطرفين هناك. وكان المتوقع ان تنتهى الحرب سريعاً وتعود القوات السوفيتية إلى ديارها بعد إنجاز مهمتها، إلا أن التدخل الأمريكى ودعمه للمجاهدين اطال عمر الأزمة وعلى مدى ما يقرب من عشر سنوات أنهكت الحرب موسكو مادياً ناهيك عن الخسائر البشرية التى لا تقدر بثمن فى صفوف الجنود السوفيت. إلا إن القيادة الروسية متيقظة لذلك وتعى جيداً الدرس الأفغانى وعازمة على عدم تكراره وليس من المتوقع أن تقع فى هذا الفخ مرة أخرى حتى لو سعت واشنطن لجرها إليه. ويفسر هذا حصر المهمة الروسية فى الضربات الجوية دون تدخل برى، والذى قد يقوم به شركاء روسيا حيث تقود روسيا تحالف رباعيا يضم إلى جانبها إيرانوالعراقوسوريا. فالعملية الروسية هى عملية منظمة ومنضبطة وتستهدف خطوط إمداد وأهداف محددة لجبهة النصرة وداعش. إن التعزيزات الروسية فى سوريا هى رسالة واضحة تؤكد من خلالها موسكو أنها لن تسمح لقوى التطرف أن تعصف بالكيان السورى ومعه النفوذ والمصالح الروسية فى المنطقة، وأنها ستقف بحزم لحماية الدولة السورية ومعها أمنها القومى فى مواجهة خطر الارهاب. ومع تدهور الأوضاع فى سوريا وتعثر الحل السلمى قد يكون البديل الأمثل لروسيا هو تأمين اللاذقية وطرطوس وضمان وصولها الآمن للمياه الدفيئة تماشياً مع العقيدة البحرية الروسية الجديدة التى جعلت من تكثيف الوجود الروسى فى البحر المتوسط هدفاً رئيسياً لها. وقد تكون الضربات الجوية الروسية بداية النهاية لتنظيم «داعش» ومعه قوى التطرف والارهاب التى تجتاح العديد من دول المنطقة لتستعيد الأخيرة أمنها واستقراراها الذى غاب عنها لسنوات. لمزيد من مقالات د.نورهان الشيخ