صدر في الآونة الأخيرة التقرير السنوي الخامس عن شفافية الموازنة العامة للدولةوالذي تصدره احدى الجهات المستقلة منذ عام 2006، وهو التقرير الذي أصبح يحظى باهتمام كبير خاصة في الآونة الحالية نتيجة لتزايد الادراك بأهمية متابعة تطورات الأوضاع المالية للدول خاصة في ظل الازمات المالية الكبرى التي مرت بها العديد من البلدان والتي أكدت بما لا يدع مجالا للشك ضرورة هذه المسألة، وبالتالي المزيد من شفافية الموازنة. فالغرض الأساسي من إعداد الموازنة هو تحقيق نوعين من الرقابة، الأولى دستورية، والثانية اقتصادية ومالية. ومن حيث الوظيفة الأولى تعد الموازنة وثيقة سياسية وقانونية تخدم أهداف الرقابة الدستورية، وتضمن المشاركة الفعالة من جانب كافة فئات المجتمع. وهو ما يتطلب بدوره المعرفة الكاملة بالأوضاع المالية، وبالتالي الشفافية المطلقة في عرض بنود الموازنة ليس فقط للأغراض الاقتصادية، ولكن وهو الأهم من أجل المزيد من المساءلة السياسية أمام السلطات الرقابية والتشريعية والشعبية.اذ تعد الرقابة على المال العام أحد الأدوار الأساسية المميزة لكافة المجتمعات الحديثة، بل إن نشأة البرلمانات أساسا جاءت لتحقيق هذه العملية. من هنا كان من الضروري العمل على تدعيم وتعزيز الرقابة المالية بصورة تجعلها قادرة على الحيلولة دون العبث بالمال العام أو إهداره. ولهذا شهدت الآونة الأخيرة اهتماما متزايدا على كافة المستويات النظرية والعملية، وكذلك فى مختلف الدول المتقدمة والنامية، بعملية صنع الموازنة ومدى الشفافية التي تتمتع بها من جهة، وبكفاءة إدارة المالية العامة وبصفة خاصة إدارة الإنفاق العام والدين العام من جهة أخرى. لهذا طور صندوق النقد الدولي من المعايير الخاصة بشفافية الموازنة العامة للدولة، وكذلك ادخل البنك الدولي العديد من التغييرات المهمة في برنامج الانفاق العام والمحاسبة المالية ناهيك عن منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي التي قامت بمراجعة المعايير الخاصة بإدارة المالية العامة.من هنا تأتى أهمية شفافية الموازنة باعتبارها من العوامل الضرورية التي تمكن مجلس النواب والمجتمع بوجه عام من مراقبة الحكومة ومحاسبتها. ويستلزم تحقيق الشفافية توضيح أهداف الموازنة، وكذلك توزيع الإنفاق على البنود المختلفة، بالإضافة إلى توفير بعض المؤشرات التي تساعد على متابعة الموازنة، فضلا عن ضرورة نشر المعلومات حول ما تم تنفيذه من أهداف الموازنة، وهذه الأمور تتحقق عند صنع الموازنة وكذلك عند التنفيذ الفعلي لها. ففي المرحلة الأولى تطرح عدة تساؤلات عن مدى الاستجابة لاحتياجات المجتمع؟ ومدى العدالة في الإيرادات والنفقات؟ومدى المساواة في الأعباء؟وأخيرا مقدار الشفافية التي تتمتع بها؟من هذا المنطلق تبرز أهمية الفهم التام والإدراك الكامل لهذه الأمور جميعا. وترتبط هذه العملية بأربعة أمور أساسية هي، كيفية صنع الموازنة، ودور السلطة التشريعية والمجتمع المدني فيها، ومقدار الشفافية التي تتمتع بها في مراحلها المختلفة، وآليات مناقشة الحساب الختامي والسلطات الممنوحة للبرلمان فى هذا المجال. ولهذا تشترط الشفافية توافر المعلومات الدقيقة في مواقيتها وإفساح المجال أمام الجميع للاطلاع على المعلومات الضرورية والموثقة، ولذلك يجب أن تنشر بعلنية ودورية من أجل توسيع دائرة المشاركة والرقابة والمحاسبة ومحاصرة الفساد من جهة، والمساعدة على اتخاذ القرارات الصالحة فى السياسة العامة من جهة أخرى. من هذا المنطلق تأتى أهمية مؤشر شفافية الموازنة باعتباره مؤشرا مهما على مدى التطور الذى حدث في هذا المجال والذى يتم استنادا إلى استطلاعات للرأى مفصلة يقوم به خبراء محليون في معظم البلدان، وهو عبارة عن 120 سؤالا لجمع معلومات مقارنة عن قدرة المواطن على الحصول على معلومات تتعلق بالموازنة، وكمية المعلومات المتاحة، مع ملاحظة التزايد المستمر فى عدد البلدان محل الدراسة حيث بدأ الاستطلاع الأول عام 2006 ب59 دولة ثم كان الاستطلاع الثاني الذي تم عام 2008 واحتوى على 85 دولة والاستبيان الثالث عن عام 2010 وضم 94 دولة، والاستطلاع الأخير الذى ضم 120 دولة. ويشير هذا التقرير الى ان الوضع المصري قد ساء كثيرا خلال الفترة الأخيرة، ولذلك انخفض عدد النقاط التي حصلت عليها في هذا المؤشر الى 19 من 100 نقطة وهي نفس ماحصلت عليه في عام 2006 رغم انها كانت قد حققت نتائج جيدة في الأعوام الأخرى، حيث حصلت على 43 نقطة عام 2008 و49 نقطة عام 2010، وبالتالي انتقلت من المرتبة ال 54 من 59 دولة عام 2005 إلى المرتبة ال 41 من 85 دولة. والمرتبة ال 43 من بين 94 دولة عام 2010 وذلك بعد ان قامت بنشر الموازنة على الموقع الالكتروني لوزارة المالية، وعقب التعديلات الدستورية المهمة التي زادت من مدة عرض الموازنة على البرلمان وكذلك خفضت من مدة عرض الحساب الختامي ونشره، الا ان غياب البرلمان خلال الأعوام السابقة، وما ترتب عليه من عدم مناقشة مشروع الموازنة قد أدى الى هذا التأخر في الترتيب، رغم المجهودات التي تقوم بها وزارة المالية في هذا المجال حيث بدأت في إصدار البيان التمهيدي للموازنة، وكذلك موازنة المواطن باعتبارهما من الوثائق الأساسية في هذا الصدد. ورغم ذلك إلا إن هناك بعض أوجه القصور التي تحول دون تفعيل الرقابة الشعبية والبرلمانية للموازنة، خاصة عدم وجود قدر كاف من الشفافية فى مراحلها الأولى، وهي المرحلة التي تضع الأسس الرئيسية للموازنة.فضلا عن ان إعداد الموازنة يفتقر إلى المرونة وهو ما يحد من قدرة الوزارات على تنفيذ المشروعات بكفاءة أكثر. ويرجع السبب الرئيسي فى ذلك إلى أن أسلوب إعداد الموازنة حاليا يتطلب من الوزارات مراجعة هيكل نفقات العام السابق لإعداد الموازنة الجديدة ولا يسمح لهم إلا بإجراء تعديلات طفيفة عليه. ومن ثم لا يصبح لدى الوزارات مجال للبحث عن بدائل ذات تكلفة أقل أو لرسم سياسات طويلة المدى فى ضوء تكلفة الفرصة البديلة للموارد المتاحة لها. وبمعنى آخر فمازالت الموازنة العامة المصرية موازنة بنود واعتمادات لا تساعد على إجراء تقديرات سليمة للإيرادات والمصروفات مبنية على أساس التكلفة والعائد، وعلى أساس دراسة البدائل المتاحة. كما لا تساعد على التحليل الاقتصادي لمعاملات الحكومة ولا تشتمل على معايير لقياس كفاءة وفعالية الإنفاق العام، وهو أمر على جانب كبير من الأهمية لان أحد أسباب الزيادة فى العجز هو انخفاض كفاءة الإنفاق العام. وهو ما لن يتحقق إلا إذا تم تطبيق موازنة البرامج والأداء. من هذا المنطلق نرى ان تحسين هذا الوضع يتطلب تعديل أسلوب إدارة الموازنة العامة بالأهداف والإطار القانوني لإعداد الموازنة، وذلك عن طريق تضمين قانون الموازنة بابا جديدا عن شفافية الموازنة يحتوى على القواعد العامة والشروط التي يجب الالتزام بها فى إعداد قانون الموازنة وكافة التقارير المتعلقة بالمالية العامة. على النحو الذي يضع إطارا موحدا ومتسقا لكيفية إعداد وثائق الموازنة. بالاضافة الى العمل على تقديم معلومات كافية عن كافة الكيانات الاقتصادية العامة، والتي تقوم بأنشطة خارج الموازنة ولكنها تؤثر على السلامة المالية للدولة مثل الهيئات الاقتصادية،وتحديد المسئولية عن نشر بيانات الموازنة والمالية ودعم شرعية ومؤسسية نشر تقارير الموازنة، وتقارير المتابعة الشهرية والنصف سنوية. جنبا الى جنب مع وضع معايير محددة للحكم على مدى نجاعة وكفاءة السياسة المالية، وبالتالي عدم الاقتصار على مجرد عرض بيانات صماء عن الموازنة وأرقام، دون الدخول فى بعض التفاصيل المهمة، أي نشر بيانات غير مالية مثل عدد المستفيدين من برامج التأمينات الاجتماعية وعدد المدارس والمستشفيات وغيرها. لاشك أن تحقيق هذه الأهداف يتطلب بالضرورة تفعيل دور المجتمع المدني والأحزاب المصرية وتطويرهما بغية جعلهما قادرين على المشاركة الفعالة في هذه العملية من بدايتها حتى نهايتها. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي