في هذه الظروف التي يمر بها عالمنا العربي والإسلامي نحتاج إلى توثيق الصلة بالله تعالى؛ كي نستطيع مواجهة ما يحدث لنا من تحديات، ولا بد أن نعلم أن الثقة بالله هي خلاصة التوكل عليه سبحانه وقمة التفويض له يقول تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. الثقة إذن هي الاطمئنان القلبي الذي لا يخالطه شك، والتسليم المطلق للملك جل وعلا، والاستسلام له عز وجل، فهو الأعلم بما يصلحنا وهو الأعلم بما ينفعنا وما يضرنا {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. قال بعض السلف رحمهم الله: من صفات الأولياء ثلاث:الثقة بالله في كل شيء، والافتقار إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء. والثقة بالله تعالى هي التي لقّنها الله تعالى أم موسى بقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [القصص: 7]؛ إذ لولا ثقتها بربها وعلمها أنه قادر على كل شيء لما ألقت ولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به الأمواج، لكنه أصبح في اليّم في حماية الملك جل وعلا وكان جزاء هذه الثقة العظيمة: قال تعالى: {فرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [القصص: 13 ]. والثقة بالله تتجلى في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فبينما هو في الغار والكفار بالباب، قال أبو بكر-رضي الله عنهً-:"يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال صلى الله عليه وسلم بلسان الواثق بربه: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن، إن الله معنا"، وعندئذ تتجلى قدرة ذي العزة والجبروت فيرد قوى الشر والطغيان بأوهى الأسباب بخيوط العنكبوت، ويُحدثنا القرآن قائلا: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 40]. وفي غزوة الأحزاب نرى صورة المؤمنين الواثقين بربهم؛ إذ يقول سبحانه تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: 22]. وقال أيضا متحدثا عما هدد به أبو سفيان والمشركون المسلمين إثر غزوة أحد: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران: 173]. هذا هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يلقن الأمة درساً في الثقة بالله فيقول لابن عمه، عبد الله بن عباس: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"(رواه الترمذي وقال: حسن صحيح). إن المسلم الواثق بالله يُوقن بأنّ الله لن يتركه ولن يضيعه إذا ما تخلى عنه كل من في الأرض فثقته بما عند الله أكبر من ثقته بما عند الناس. والإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأنه لا حول لأي قوة في العالم ولا طول لها إلا بعد أن يأذن الله، والإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأن هذا الكون، وما فيه من أنواع القوى المختلفة ما هي إلا مخلوقات مسخرة لله، تجري بأمره وتتحرك بقضائه وقدره {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا 0لْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقا} [الجن: 13]. إن المؤمن بالله تراه دائماً هادئ البال ساكن النفس إذا ادلهمت وزادت عليه الخطوب والمشاكل فهو يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ولسان حاله: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51]. وها هو الخليل إبراهيم، عليه السلام، يضع زوجه وابنه في وادٍ غير ذي زرع عند البيت المحرم، في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، ولا أهل ولا جيران، فتقول زوجته يا إبراهيم لمن تتركنا؟ لمن تدعنا يا إبراهيم؟ فلم يجب. فقالت: يا إبراهيم آلله أمرك بهذا؟ فأشار: نعم. قالت: إذن لن يُضيعنا. والكريم جل وعلا حقًّا ما ضيّعهم بل وسع عليهم من فضله. فلنقرأ ولنتدبر قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 58]، وقوله عز وجلّ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]. أبعد هذا ما زال لدينا شك ووسوسة من الشيطان؟! فمهما عظم الخطبُ واسودَّ الأفقُ لا بد أن نتفاءل ونثق بالله تعالى وندعوه أن يرلفع عن أمتنا العربية والإسلامية البلاء ويفرج الكرب إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. لمزيد من مقالات د . جمال عبد الناصر