يبدو أن معادلة النفط والدماء سوف تصبح الحاكمة في تحديد مستقبل العلاقة بين دولتي السودان إذ لا يخفي أن قضية النفط والسيطرة عليه كانت محورية في تحديد مسار الحرب والسلام في بلاد السودان. وعلي الرغم من أن عمر دولة جنوب السودان الوليدة لم يتعد العام الواحد فقط إلا أن قيادتها السياسية اتخذت قرارا هو الأخطر منذ اعلان الانفصال والذي يتمثل في احتلال منطقة هيجليج الشمالية الغنية بالنفط. من المهم التأكيد علي أن هذه المنطقة النفطية ليست ضمن المناطق الحدودية المتنازع عليها أو القضايا العالقة بين البلدين, وإنما هي منطقة شمالية تقع إلي الشمال من خط حدود عام 1956, كما أن قرار التحكيم الدولي في لاهاي عام 2009 أقر تبعية المنطقة لشمال السودان. وربما يفسر لنا ذلك رد الفعل الدولي علي هذا التصعيد العسكري من جانب قوات جنوب السودان, والذي يتجاوز مفهوم الدفاع عن النفس. فالأمم المتحدة أدانت العدوان وطالبت جوبا بسحب قواتها من هيجليج وكذلك فعل الاتحاد الأفريقي. ويمكن ربط التصعيد العسكري الأخير من قبل جنوب السودان بالسياق التفاوضي العام بين كل من حكومتي جوباوالخرطوم حول كافة المشاكل العالقة بعد الانفصال, ولم يحدث فيها اختراق كبير. وعليه فإنه يمكن تفسير التصعيد باعتباره ورقة تفاوضية تضغط بها جوبا علي الخرطوم. وقد ظهر ذلك واضحا في محاولة الربط بين الانسحاب من هيجليج الشمالية وانسحاب قوات الخرطوم من منطقة أبيي المتنازع عليها. الواقع أن دولة السودان الجنوبي كانت قد اتخذت قرارا طوعيا بوقف صادراتها النفطية نظرا لاعتراضها علي رسوم النقل المبالغ فيها من قبل حكومة الخرطوم. إذ يتم نقل نفط الجنوب عبر ميناء بورتسودان في الشمال. وتصر السودان علي تحصيل نحو (36) دولارا علي البرميل الواحد الذي يصدره الجنوب عبر أراضيها في حين يرفض الجنوب ذلك ويطالب بأن تكون الرسوم ستة دولارات فقط للبرميل الواحد. ولا شك أن توقف العائدات النفطية لها نتائج كارثية علي اقتصاد البلدين, وإن كان التأثير الأسوأ يقع علي كاهل حكومة الجنوب التي تعاني من مشكلات بناء الدولة المستعصية. وعليه فإن تحرك قوات جنوب السودان لاحتلال منطقة هيجليج التي تنتج أكثر من نصف نفط شمال السودان يمكن فهمه في ظل صراع الارادات علي النفط وعوائده في كل من شمال السودان وجنوبه. ثمة من يري أن الخطوة الجنوبية تأتي في اطار رؤية استراتيجية بعيدة المدي لتحقيق حلم السودان الجديد الذي أكد عليه المانفستو الأول للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون جارانج. ووفقا لهذا الفهم فإن اعلان استقلال الجنوب انما يمثل مرحلة أولي لتحرير جميع أرجاء السودان. ولعل احتفاظ كل من الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان بنفس الاسم بعد انفصال الجنوب انما يعكس تعبيرا- ولو رمزيا- عن هذا الحلم الخاص بالسودان الجديد الذي يقوم علي أسس علمانية وديمقراطية. وباعتقادي فإن احتفاظ الحركة الشعبية لتحرير السودان بكوادرها السياسية والعسكرية في شمال السودان يجعلها طرفا فاعلا في موازين القوي داخل المناطق الحدودية في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. هناك أيضا تفسير تآمري أخر لما يجري في السودان شماله وجنوبه وهو رائج في بعض الأدبيات العربية والاسلامية. ووفقا لمنطق التفسير التآمري فإن عملية انفصال جنوب السودان تمثل بداية لمخطط استعماري قديم يهدف إلي تقسيم وتفتيت العالم الاسلامي من خلال قطع أطرافه. ولذلك نري من يصور دولة جنوب السودان علي أنها بمثابة كيان مصطنع أقامته القوي الاقليمية والدولية لمجابهة والتصدي للمد العربي الاسلامي في منطقة القرن الافريقي وشرق أفريقيا. وهناك بعض آخر يري أن الهدف النهائي في هذه المعادلة الخاصة لتقسيم السودان, هو محاصرة واحتواء مصر بما يهدد أمنها القومي. وعلي الرغم من أننا لا نميل إلي منطق التفسير التآمري فإن ثمة مؤشرات مهمة علي وجود عملية إعادة هندسة جيواستراتيجية لمنطقة السودان وشرق أفريقيا بما يحقق مصالح القوي الدولية الطامحة للسيطرة والنفوذ. وربما يؤكد ذلك أهمية الدور الغربي والأمريكي تحديدا في صياغة مستقبل دولتي السودان. باعتقادي أن القراءة الواعية للمشهد السوداني العام تجعل من الخيار الصراعي الشامل أمرا مستبعدا, حيث أنه لا يصب في مصلحة أي من البلدين. فعلي الرغم من الصدامات العسكرية الحالية في منطقة هيجليج النفطية وما حولها فإنها تظل أعمال عنف محدودة وخروقات أمنية سافرة لاتفاق عدم الاعتداء بين البلدين. وكل طرف في معادلة الصراع يحاول جاهدا اظهار قوته وعضلاته لإثبات أنه الأقوي والأقدر علي الفعل ورد الفعل. وأغلب الظن أن الصراع لن يتجاوز هذه المرحلة ولن تقف القوي الدولية مغلولة الأيدي أمام الانزلاق إلي أتون الحرب في السودان والتي تهدد أمن واستقرار المنطقة ككل. وربما تحاول حكومة جنوب السودان أن تفرض وقائع جديدة علي الأرض لتقوية موقفها التفاوضي. وتشير بعض التقديرات غير الحكومية إلي أن عودة الحرب سوف تؤدي إلي نتائج لا يقوي أي طرف علي تحملها. كما أنها تعرض دول الجوار الاقليمي لخسائر هائلة. ومعروف أن جنوب السودان يعتمد علي العوائد النفطية في دعم نحو 98% من ميزانيته الوطنية. وعليه فإن استمرار الصراع المسلح سوف يحرم حكومة الجنوب من هذه العوائد, بل وسوف يؤثر سلبا علي الانتاج الزراعي والاقتصادي بشكل عام. وبالنسبة للخرطوم فهي تعاني اقتصاديا جراء خسارتها لنحو 75% من احتياطاتها النفطية بعد انفصال الجنوب. وتعتمد السودان اعتمادا كبيرا علي صادراتها النفطية في الحصول علي العملة الصعبة اللازمة لمواجهة متطلباتها المالية والتنموية. ولا تقتصر هذه الخسارة علي دولتي السودان فحسب في حالة عودة الحرب المسلحة وإنما تشمل أيضا جيران السودان. لا شك أن الدور المصري الذي بات واضحا منذ تفجر الأزمة المسلحة في هيجليج وزيارة وزير الخارجية لكل من الخرطوموجوبا, إنما يعكس توجها جديدا في السياسة المصرية بعد ثورة 25 يناير. إذ لا يخفي أن مصر تحتفظ بعلاقات وثيقة مع كل من الدولتين. وهو ما يجعلها وسيطا مقبولا لكل منهما. فهل تعيد هذه الأزمة الروح للدور المصري المفقود في كل من السودان وأفريقيا؟ وهل تستطيع الدبلوماسية المصرية, بما لها من تاريخ عريق أن تدافع عن أمن مصر القومي, وتحمي مصالحنا في السودان وباقي دول حوض النيل؟ المزيد من مقالات د. حمدى عبد الرحمن