تبدو الهند بلدا فى عجلة من أمره، يلهث وراء النجاح ويجاهد للتقدم، يعمل بجد للازدهار رغم العقبات الجسيمة والتحديات الكبيرة، وقد قطع فى مسعاه أشواطا بعيدة، تصل إلى حدود الإعجاز، وإن لم تخل من العثرات أحيانا.. للمعجزة الهندية إن جاز الوصف ركائز وأسباب، كلمة السر فيها أن الهند منذ استقلالها عن التاج البريطانى، تمثل أكبر انتصار للفكرة الديمقراطية خارج أوروبا والغرب، إنها أكبر ديمقراطية وأضخم نظام انتخابى على سطح الكوكب، وهي قبل كل شيء انتصار للقيم التنويرية الأساسية، قيم التقدّم والمساواة والحرية، إذ على الرغم من التنوع العرقى والدينى واللغوى والفروق الطبقية الهائلة رسخت الدولة الهندية مبدأ التعايش واحترام الدستور والقانون..الدستور والقانون فوق الكل، ويجب على الجميع أن يحترمه أيا كان.. يبنى الهنود وطنهم وهم يعلون صرح ديمقراطيتهم، دون تعصب لشخص أو مذهب أو دين أو عرق، يصوت مسلمون لهندوسيين، وهندوسيون يصوتون لمسلمين، وهكذا بقية أتباع الديانات.. فى دليل قاطع على سلامة النهج الذى أرساه الزعيم الروحى المهاتما غاندى والقائد السياسى المحنك جواهر لال نهرو، عندما صعد الأخير إلى المنصة، عام 1947، ليلقى خطابا وضع به اللبنة الأولى ل «الحلم الهندى»:بعند حلول الظلام وبينما يغط العالم فى نوم عميق سوف تستيقظ الهند، وتستنشق نسمات الحياة والحرية.. وحينها ستجد هذه الأمة المكبوتة فرصة للتعبير عن ذاتهاب. لقد أثبتت تجربة النهوض الهندية أن أى قفزة حضارية، فى سباق الأمم، لايمكن أن تتم إلا بإرادة سياسية جادة وبعيدة تماما عن الفساد. اليوم تتحقق نبوءة نهرو، الهند بتعداد سكانى يتجاوز 1.2 مليار نسمة، و400 جامعة تخرج مليونى خريج سنويا، أغلبهم فى العلوم التطبيقية والتقنية والهندسة، أكبر رافد للعلماء والفنيين بالعالم، قصص النجاح بهذا البلد كثيرة وكبيرة، تنفذ الهند برنامج تحول اقتصادي صممته بنفسهات وطبقا لظروفها، وهى تحتل المرتبة الثامنة اقتصاديا هذا العام، بمعدل نمو متواصل منذ زمن يلامس 8%، فى طريقها إلى احتلال المرتبة الثالثة خلف الصين. صندوق النقد الدولي يسمى الهند «النقطة المضيئة بالمشهد العالمي». قطعت نيودلهى شوطا بعيدا فى تطوير البنى التحتية والتعليم والمعارف، وتحديث الصناعة والزراعة (تنتج غذاءها وتصدر إلى الخارج) ومصادر الطاقة وطرق الحفاظ على البيئة. قال أحد الحكماء يوما : «اعطوني طاحونة الهواء أعطكم القرون الوسطى» وبالقياس نقول «أعطونى كمبيوتر أعطكم العولمة» الهند فى هذا الزمان أحد كبار سادة العولمة، سادة هذا العالم، أحد الماسكين بشفرة الثورة المعلوماتية والبرمجيات ونظم الاتصالات والأقمار الصناعية ونظم إطلاقها، وهى فى موقع القمة دوليا، وقد أدهشت العالم بإجراء الانتخابات باستخدام أحدث ما أنتجته التكنولوجيا الهندية عن طريق آلة التصويت الإلكتروني، إذ يدلى 650 مليون ناخب بأصواتهم في الانتخابات، في وقت واحد، وكذا علوم الصيدلة وإنتاج الأدوية المتقدمة والهندسة الوراثية وهى قوة نووية وعسكرية كبرى، وتمتلك برنامجا فضائيا، مع أنها لا تزال بلد الفقر المدقع، 50% من سكانها يعانون الفقر.. نجحت الهند العام الماضى فى إطلاق مسبار فضائى إلى كوكب المريخ، لتصبح الدولة الآسيوية الأولى التي تدخل نادي مستكشفي الكوكب الأحمر والرابعة بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا وروسيا، لحظتها قال رئيس الوزراء الهندي مودى، وسط التصفيق بمركز قيادة منظمة أبحاث الفضاء الهندية: «لقد حققنا اليوم إنجازا سيسجله التاريخ، لقد خضنا التحدي للوصول إلى المجهول وأنجزنا شيئا يشبه المستحيل».. هذا مكسب لدولة الهند.. نعم، إنها قدرة الإنسان الهندي على التحدي وتحقيق المستحيل، ألم يقل ونستون تشرشل: «إن إمبراطوريات المستقبل ستكون إمبراطوريات العقل».. كل المؤشرات توحي بأن الهند دخلت نادي العمالقة الكبار في كل المجالات ونجحت فيما لم ننجح فيه نحن العرب، مع أن مصر والهند بدأتا المشوار من نقطة واحدة تقريبا وفى ظروف متشابهة، وإن اختلفت النتائج وتباينت المسالك، السبب الجوهرى هو «توارى المشاركة الشعبية» فى بلادنا العربية، فى ظل الديكتاتورية والحكم الفردى والفوضى المنهجية والفساد الطافح والتعصب الدينى وفقدان معنى التعايش المشترك. نعم جرت محاولات للإصلاح، لكن المسلم به أن عملية التغيير والإصلاح فى العالم العربى صارت ببطء طيلة النصف قرن الأخير،عوقتها نواقص وعورات فى بنى المجتمعات العربية، عورات تحدثت عنها باستفاضة تقارير التنمية الإنسانية الصادرة عن البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة، على امتداد السنوات العشر الماضية، وأوجزتها فى ثلاثة عيوب أساسية: غياب الحرية وعدم تمكين المرأة أواكتساب القدرات المعرفية، وبات واضحا برغم كل شيء أن العجز الشديد عن بناء وتنمية القدرة العربية الذاتية فى هذه المجالات، أفضى مع غياب «الحكم الصالح» أو نتيجة له إلى قصور التنمية الإنسانية وإضعاف القوة العربية الشاملة، وصولا إلى تحلل وذوبان وتبخر دول بكاملها، وتمزيق شعوب وتهجيرها كما نشاهد اليوم فى فلسطين والعراق وليبيا وسوريا وغيرها، ترجمته العملية: تراجع حاد للوزن العربى فى ميزان القوى بالمنطقة، على نحو مأساوى، وسط معترك إقليمى ودولى بالغ الشراسة.. فهل آن الآوان لأن يدرك المصريون والعرب الموعظة الحسنة للمعجزة الهندية، ويعودوا بقوة إلى طى المسافات وتعويض ما فات..؟! [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن