طائر أنيق.. سمكة تبهرك ألوانها المتداخلة .. شجرة مثمرة تقف شامخة متألقة أو فلاحة مصرية ترمز إلى الخير والنماء،.. قطع فنية شفافة وبلورية لها سحر وبريق خاص، تخطف الأعين وتثير أيضا مشاعر الدهشة والفضول. كيف تشكلت بهذه البراعة من الزجاج؟، وكيف رسمت قطع البلور قسمات الوجه الإنساني ونجحت فى إبراز أدق التفاصيل؟.. هذا ما تميزت به أعمال فنان النحت الزجاجي زكريا الخنانى ورفيقة دربه رائدة فن النحت، عايدة عبد الكريم. رغم أن الأمر يبدو غريبا ومحيرا لكن فى بيتهما الذي تحول إلى متحف ومركز تعليمي، فى منطقة الحرانية على طريق سقارة السياحي، نجد ما يفك طلاسم اللغز ويشرح تفاصيل فن الصب فى قوالب. فقد حرصت عايدة على استكمال مسيرة زوجها الفنية وترك مكان يحفظ أعمالهما ويقوم بتدريب الموهوبين على الحرفة المميزة0 فصناعة الزجاج من الحرف التقليدية المرتبطة بحياتنا اليومية سواء على الصعيد الجمالي أوالنفعى. وقد بدأت فى الحضارات القديمة فى عهد المصري القديم واستمرت حتى الآن فى تطور وتغيير فى الخواص. ولا يرجع ذلك فقط لتطور طرائق تكوينه ما بين اليدوي والآلي، بل أيضا بسبب اختلاف تركيبات الخلطة الزجاجية ومنها تقنية القوالب. ويؤكد التاريخ أن القوالب تقنية مصرية قديمة من أيام الفراعنة، اللذين كانوا يشكلون بها أشكالا بسيطة مثل عين للمومياء وبعض القطع التي توضع فى الكفن وقوالب توضع للزينة. وقام الخنانى فى الستينات بإعادة اكتشاف تقنية القوالب وإعادتها إلى مصر. كان والده مفتش آثار.. اكتشف مقبرة توت عنخ آمون فى الأقصر وظل عشق الفن بداخله.. كان يذهب للمعارض وأدهشه أن يسمع عن فتاة نحاتة ليلتقي زوجة المستقبل التي أثر لقاؤه بها على حياته واتجاهه إلى الفن. كان مهتما، يراسل ويبحث، وكانت هي تعمل بالخزف وتدرسه فى المعهد العالي لمعلمات الفنون الجميلة والتقى فنه وعلمها. ليعودا ويبدأ العمل فى الزجاج الحراري الذي لم يكن موجودا وقتها فى مصر. واختارا منزلا فى الحرانية سنة 1969 أقاما فيه نواة لورشة صغيرة وأحضرا فرنا0 فى البدء كانت «الطينة»، التي لجأ إليها الفنانان لتشكيل القالب وصب الزجاج بداخله بعد إضافة الأكاسيد المعدنية للحصول على الألوان. أما طريقة الصب بواسطة طبقات من الشرائح الزجاجية فهي إحدى التقنيات التي ابتكرها الخنانى لتحدث تجزيعات تشبه الأحجار الكريمة. فى ورشة عبد الكريم الفنية، ورغم وفاتها منذ عدة شهور، يستمر مساعدوها فى تنفيذ تصميماتها فى القوالب. خليل أبو العلا وحاتم عبد المعطى وأخوه شعبان هم أول من تعلموا الصنعة منذ نعومة أظافرهم فى بيت زكريا الخنانى. وهو المكان المنوط به حتى الآن بالحفاظ على فن تشكيل عجينة الزجاج. فضلا عن تدريب الموهوبين من الأجيال الجديدة من خلال مدرسة لتعليم أسرار الصنعة. فى المتحف المبنى على الطراز النوبي والذي تزينه قطع فنية من الزجاج الملون، تعلوها كوات من الزجاج، تنظم الإضاءة وتضيف سحرا خاصا على المكان، يكمل خليل وزملاؤه مسيرة أصحاب البيت الراحلين تحت إشراف وزارة الثقافة وشباب الفنانين. فهذا العشق للفن هو الذي شكل أيضا مسار حياة المساعدين الثلاثة حاتم وخليل وشعبان لتصبح حرفتهم ومهنتهم هي صب الزجاج فى القوالب سواء المسطح أو الكور والنوع الأصعب وهو عمل عجينة الزجاج. وعجينة الزجاج مصطلح يستخدم لوصف تقنيات مستخدمة فى قولبة الزجاج عن طريق حرق قطع زجاج صغيرة محتفظ بها فى قالب مقاوم للحرارة وهوما يعطى لهذه القطع شكلها النهائي. تبدأ صناعة القالب الأول - كما يشرح خليل – من الطين ثم يصب بداخله الجبس حتى يجف ليتكون القالب النموذج أو « الماستر» الذي لا يدخل الفرن، وعن طريق القالب النموذج يتم تشكيل القالب الحراري، وهو خليط من أنقى أنواع الرمال ( الكوارتز) حتى لا يتصلب، ومن الجبس ليمنحه القوام ومن بودرة التلك، للتعامل الحرارين وتتم إذابتها فى الماء، ويصب الخليط داخل القالب الجبس مع إضافة ورنيش عازل من الزيت والصابون حتى لا يتلاصق القالبان. وخلال عشر دقائق يجف القالب الحراري. بعدها يتم غسل الزجاج و تقطيعه ووضعه داخل القالب. فالزجاج هو مصدر القوة والقالب هو مصدر المقاومة. لذا يوضع القالب فى الفرن مقلوبا، أى أن فوهة المزهرية أو الآنية تكون للأسفل. يتقاسم حاتم وخليل وشعبان مراحل العمل وقد يتبادلونها. فالخبرة وسنوات العمل الطويلة جعلت كلا منهم يحفظ عن ظهر قلب كل التفاصيل رغم صعوبتها. ويروى حاتم، الذي أكمل تعليمه حتى الصف الثالث الثانوي أزهري، بدايات تعلمه لفن عمل زجاج القوالب على يد فناني الزجاج زكريا الخنانى وزوجته عايدة عبد الكريم قائلا: "كنا أطفالا نلعب فى الغيط وأول يوم مدرسة أتيت إلى هنا عند الأستاذ زكريا ومدام عايدة، علمونا كيف نبرى القلم الرصاص لنرسم به، وكيف نقوم بعمل أشكال من الطين، طائر، سمكة، إنسان، ونحاكى الطبيعة كما نريد من خلال البيئة المحيطة بنا. كنا نلعب بالطين ونكون أشكالا فنية وتعلمنا بالتجربة والخطأ." بعد وضع الزجاج فى القالب الحراري يدخل الفرن ليسيح الزجاج ويأخذ الشكل «الفورمة»، ثم بعدها يتم كسر القالب من حول الزجاج بعد أن يكون قد تشكل. فى البداية يشعلون الفرن هادئا ويتركون بابه مواربا حتى لا ينفجر الزجاج بفعل شدة الحرارة المفاجئة وبعد حوالي ساعة، ووصول الحرارة إلى 360 درجة مئوية تقريبا يغلقون الباب، ثم يبدأون فى زيادة معدلات الحرارة تدريجيا. ولكى يتيقنوا من درجة نضج الزجاج، يقومون بمتابعة مقدار لمعانه، وبعد أن يبرد وتصل الحرارة إلى درجة الصفر، يخرجون القطع و ينتظرون لليوم التالي ليقوموا بغسله ثم عملية التشطيب وإزالة الرايش، عملية تستغرق أربعة أيام من الصبر والأناة والإتقان. حرفة صعبة، مراحلها كثيرة وتحتاج إلى صبر من الطراز الأول كما يراها خليل وحاتم. ولكنها عشق وفن كما تعلموها من زكريا الخنانى وعايدة عبد الكريم. اليوم فى الورشة الإنتاجية والتعليمية ثلاثة أفراد أساسيين وأبناؤهم، يتعلمون ويعلمون من خلال دورات تدريبية لفن صناعة زجاج القوالب. كما يتردد علي المتحف عشاق هذا الفن وبعض أبناء الصعيد الذين أرادوا اكتساب الحرفة وممارستها. يتعلم الدارس عمليا طرق تشكيل المسطح والكور وعجينة الزجاج. فمن خلال المسطح يتم التعرف على الزجاج ، ماهيته وطرائق تحضيره، وتقطيعه وتلوينه. وهى أولى خطوات التشكيل وعلى المسطح يمكن عمل موزاييك (تجميع ولصق قطع زجاج صغيرة فى أشكال جمالية أو هندسية)، أو وضع طبقتين زجاجيتين وبداخلهما ألوان. أما المجسمات ( الكور)، فهي نتاج وضع الزجاج داخل مجسم معين ليأخذ شكله.وتكون عجينة الزجاج من نصيب المتمرسين فى حرفة الزجاج، فيصنعون تمثالا أو قطعة نحتية لطائر أو وجوه مفرغة. حالة من المشاركة بين الفنان والزجاج يضيف لها من روحه، لتخرج كل قطعة حالة خاصة، متفردة فى ورشة تحرص على الحفاظ على حرفة أصيلة وتستمر فى بث الروح المصرية القديمة فى المنتجات لكن فى شكل حديث ومتطور.