ليس هناك من شك فى أن مؤسسات المجتمع المدنى وخصوصا التى تخصصت فى مجال الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان قد لعبت دورا رئيسياً فى معارضة النظام السلطوى الذى قاده عبر ثلاثين عاما كاملة الرئيس الأسبق «مبارك». وقد تصاعدت وتيرة كفاح هذه المؤسسات ضد السلطوية السياسية للنظام القديم من مجرد الاعتراض على سياسة النظام القمعية، إلى حشد الجماهير لمعارضة النظام من خلال تنظيم مظاهرات احتجاجية متعددة، سرعان ما انتقلت من مجرد معارضة النظام إلى الانشقاق عليه سعيا وراء إسقاطه بالكامل. ولعل مظاهرات حركة «كفاية» على وجه الخصوص هى التى عبرت الحاجز بين المعارضة من داخل النظام والانشقاق عليه، حين خرجت مظاهرة فى شوارع القاهرة تهتف يسقط حسنى مبارك. لحظتها أدركت كمراقب سياسى أن بذور الثورة على نظام «مبارك» قد أينعت وأن الأفق القريب ربما يشهد أحداثا خطيرة. والحق أنه لم يكن فى تصورنا السيناريو الذى حدثت فى ضوئه الهبة الجماهيرية فى 25 يناير. فقد كنا كمراقبين سياسيين حين أدركنا عمق الفجوة الطبقية فى مصر بين من يملكون ومن لا يملكون فى ريف مصر وحضرها أن هناك ثورة قادمة فى الطريق، ولكنها ثورة الجياع الذين سدّ الفقر أمامهم سبيل الحياة. وقد عبرت عن هذا الواقع المرير حين سألنى الدكتور «عمرو عبد السميع» الذى كان يقدم برنامج التليفزيون الشهير «حالة حوار» كيف نلخص المشهد الاجتماعى فى مصر الآن؟ وأجبته على الفور «منتجعات هنا وعشوائيات هناك» للتعبير عن الفجوة الطبقية العميقة فى مصر. غير أن 25 يناير فاجأتنا بأن مجموعة من النشطاء السياسيين الذين يعملون فى إطار مؤسسات حقوقية، وخصوصا هؤلاء الذين صمموا الموقع الإلكترونى الشهير «كلنا خالد سعيد» استطاعوا حقا أن ينتقلوا عكس توقعى الشخصى من الفضاء المعلوماتى إلى المجتمع الواقعى، وينظموا فى ميدان التحرير مظاهرة احتجاجية سرعان ما تحولت إلى ثورة شعبية، حين انضم إليها ملايين المصريين رجالا ونساء شبابا وشيوخا دوت هتافاتهم ضد النظام إلى أن تصاعدت بالشعار الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام»، والذى سقط فعلا بعد ثمانية عشر يوما فقط من يوم 25 يناير. ولو راجعنا تاريخ هذه المنظمات الحقوقية ونشأتها فى مصر وتطور ممارساتها وصداماتها مع نظام «مبارك» لاكتشفنا أنها كانت موضع جدل شديد، سواء فى الصحافة أو فى المجتمع السياسى، وذلك لأسباب متعددة لعل أهمها على الإطلاق علاقاتها المباشرة بمصادر التمويل الأجنبية، سواء كانت دولا فى مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبى، أم تنظيمات عالمية تحض صراحة على إسقاط النظم الشمولية والسلطوية. وأثيرت بهذا الصدد اتهامات شتى لقادة هذه المنظمات الحقوقية سواء بالعمل فى إطار مخططات أجنبية لإسقاط النظام، أو بالتربح من هذا النشاط الحقوقى. وقد حاولت بعض هذه المنظمات الحقوقية بعد ثورة 30 يونيو الاستمرار فى نهجها القديم من تحدى سلطة الدولة كما ظهر من مظاهراتها التى نظمتها لمعارضة قانون التظاهر، ومعنى ذلك أن قادة هذه المنظمات الحقوقية لم يدركوا عمق حجم التغير السياسى الذى أعقب 30 يونيو. فما حدث بعد إعلان خريطة الطريق -وخصوصا إصدار دستور جديد وانتخاب «السيسى» رئيسا للجمهورية والإعداد للانتخابات النيابية كان يعنى نهاية «الشرعية الثورية» التى سادت بعد 25 يناير، والتى خلطت خلطا معيبا بين الثورة والفوضى، وكانت سببا فى مصادمات دامية بين مظاهرات غوغائية وقوات الأمن والقوات المسلحة، وبداية الشرعية الدستورية التى تقوم على احترام مؤسسات الدولة الجديدة التى نشأت بعد سقوط حكم الإخوان الديكتاتورى. وهذه الدولة التى أخذت ملامحها تتضح بالتدريج من خلال مبادرات الرئيس «السيسى» هى التى أطلقت عليها «الدولة التنموية». والدولة التنموية بحسب التعريف هى الدولة التى يقوم قادتها السياسيون بالتخطيط والتنفيذ لعملية التنمية الشاملة للمجتمع. ولا يعنى ذلك كما قررنا فى مقالاتنا الماضية استبعاد رجال الأعمال أو إلغاء القطاع الخاص والذى هو ركن أساسى فى التنمية على مستوى العالم ولكن يعنى بكل بساطة أنه سيعمل بحرية ولكن تحت إشراف ورقابة الدولة وفقا للخريطة التنموية التى سيتم وضعها. وإذا كنا فى مقالنا الماضى قررنا أن الأحزاب السياسية المصرية التقليدية قد وصلت إلى منتهاها وفقدت فاعليتها القديمة بل وأصبحت- لضعفها المؤسسى وعدم اتصالها بالجماهير العريضة وعجزها عن التعبير عن مصالحها الطبقية- عبئا فى الواقع على الدولة وعلى المجتمع معا ولذلك دعوناها لكى تتجدد وتصبح أحزابا تنموية تشارك بفاعلية فى جهود الدولة التنموية. ويبقى الضلع الثالث من المثلث السياسى والذى يتكون من الدولة والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى. ونحن ندعو هذه المنظمات وخصوصا المنظمات الحقوقية التى كانت تملأ الدنيا ضجيجا وصخبا حول مخالفات حقوق الإنسان، والتى كانت تحصل على منح مالية ضخمة من الجهات الأجنبية للقيام بأدوار تافهة مثل رقابة الانتخابات رئاسية كانت أو نيابية، أو تنظيم الاحتجاجات الجماهيرية أن تتحول لتصبح مؤسسات تنموية تشارك بفعالية فى جهود التنمية الشاملة. وهذه الشراكة تعنى الاشتراك مع الأحزاب السياسية التنموية الجديدة فى صياغة رؤية استراتيجية للبلاد تحدد المسارات الرئيسية للدولة فى العشرين عاما المقبلة، بالإضافة إلى الإسهام فى وضع الخرائط التنموية. ويبقى دورها الأهم وهو الاشتراك مباشرة فى عملية التنمية عن طريق مشروعات تخطط لها وتديرها وتنفذها على المستوى القومى، وعلى مختلف المستويات المحلية بحكم قدرتها من خلال توزيعها الجغرافى على الوصول إلى الجماهير العريضة فى القرى والنجوع وعواصم الأقاليم المختلفة. ولو راجعنا خريطة المجتمع المدنى فى مصر الواردة فى البحث المهم الذى أصدرته «الشبكة العربية للمنظمات الأهلية» والذى شاركت فى التخطيط له مع مجموعة من الخبراء المرموقين وصدر فى كتاب بعنوان مؤشرات فاعلية منظمات المجتمع المدنى العربى (2010)، والباحث الرئيسى والمحرر للكتاب الدكتورة «أمانى قنديل»، لو رجعنا إلى هذه الخريطة لاكتشفنا أن العدد الاجمالى لمنظمات المجتمع المدنى عام 2008 هو 27068 منظمة تصنيفها الرسمى وفقا لبيانات وزارة التضامن الاجتماعى هو أن 26% تعمل فى مجالات تنموية، و 74% فى مجالات خبرية ورعائية وحزبية وحقوقية (راجع صفحة 81 من الكتاب وما بعدها) ويشير الكتاب في إشارة مهمة إلى الخلل الجسيم فى توزيع مؤسسات المجتمع المدنى بين الحضر والريف حيث تتركز 70% من الجمعيات فى الحضر مع أن الريف- كما يقرر الكتاب -فى إشارة ذكية- فى احتياج حقيقى لمبادرات أهلية تواجه تحديات التنمية البشرية. فى هذه العبارة الموجزة تتلخص دعوتنا لمؤسسات المجتمع المدنى لكى تكون مؤسسات تنموية، وهذا يتفق فى الواقع مع التطورات العالمية فى مجال المجتمع المدنى العالمى. لمزيد من مقالات السيد يسين