ليس صحيحاً أن دستورَ 2014 يمنحُ مجلسَ النواب حقَّ أن يعزلَ الرئيسَ مثلما يتردد كثيراً هذه الأيام! والبعض يتجاسر ويتحدث تحديداً عن أن المادة 161 هى التى تمنح المجلس هذا الحق، برغم أن أقصى ما يملكه المجلس فى هذا الموضوع، بنصّ هذه المادة، هو جواز «اقتراح سحب الثقة من رئيس الجمهورية وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة»! والفرق بين اقتراح سحب الثقة وحق العزل كبير ما كان ينبغى بذل أى جهد فى توضيحه. بل إن نفس المادة وضعت شروطاً يكاد توافرها أن يكون مستحيلاً فى حالتنا، أولها أن يكون الاقتراح بطلب مُسَبَّب ومُوَقَّع من أغلبية أعضاء مجلس النواب على الأقل، ثم أن يوافق على الطلب ثلثا أعضاء المجلس، وحتى بعد هذا، فإن قرار إعفاء الرئيس من منصبه مشروط بموافقة أغلبية الناخبين فى استفتاء عام على أمر سحب الثقة من الرئيس وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، بما يعنى أن الشعب هو صاحب قرار العزل وليس المجلس. وأما أهم التفاصيل فى الموضوع فهى أن مجلس النواب يُعَدّ منحلاً إذا كانت نتيجة الاستفتاء برفض اقتراح المجلس. والغريب أنه بعد كل هذا الوضوح، فإن هناك من لم يتوقف حتى الآن عن الكلام عن أنه بإمكان مجلس النواب القادم أن يعزل الرئيس! والكلام على ألسنة وأقلام بعض مؤيدى الرئيس السيسى المتخوفين من أن تجئ أغلبية المجلس من المناوئين، وعلى الناحية الأخرى فإن أبواقاً لجماعة الإخوان تتحدث من الخارج وتبثّ شائعات فى الداخل عن أن هذه من أهم مهام المجلس! بل إن خيالهم يشطح إلى أبعد مدى، عن أن عودتهم إلى الحكم باتت قريبة بعد أن يتخذ المجلس ما يسمونه خطوة تصحيحية..إلخ وأما لماذا يستحيل تصور أن يلجأ المجلس إلى هذه الخطوة، وبفرض أن ثلثى المجلس راغبون فى ذلك، فالسبب الرئيسى يتمثل على وجه التحديد فى هذه النتيجة الحاسمة بأن المجلس نفسه سوف يُحَلّ فى حالة رفض الاستفتاء الشعبى لاقتراح المجلس! وهذه تُحسَب للجنة وضع الدستور، التى وضعت ضوابط تعفى البلاد من احتمال التورط فى دوّامة الصراع بين البرلمان ورئيس الجمهورية. ونحن نرى حولنا بعض التبعات الرهيبة التى تدفعها الشعوب من جراء هذا الصراع. لهذا، فإنه من المؤكد أن ثلثى أعضاء المجلس، حتى إذا كانوا على أعلى درجة من الحماس لفكرة عزل الرئيس، فإنهم لن يقامروا باتخاذ هذا الإجراء إلا وهم واثقون تماماً من أن تأتى نتيجة الاستفتاء الشعبى بالموافقة. وهذا ما ينقل معالجة الموضوع من التعميم إلى التخصيص. دَعْ عنك الاضطراب البادى فى كلام من يفترض البلاهة فى الجمهور، ويُصرّ على أن يتجاهل المعانى العميقة لما حدث فى 30 يونيو وأن يرفض الحقائق المترتبة على هذا الحدث الضخم، وكان من أهم هذه الحقائق أن الجماهير تحمست لمن ساعدها فى التخلص من الحكم الكارثى للإخوان، ودون الدخول فى التفاصيل، فقد كان من تجليات هذا الحماس الجماهيرى أن حصل الرئيس السيسى على نحو 97 فى المئة فى الانتخابات الرئاسية، وهو مازال خطاب الإخوان يُبدِى إزاءه اضطراباً فى نكران عُصابى، برغم أن الواقع على الأرض أمامهم يُعطِى مؤشرات أخرى. صحيح أنه لا ثبات فى السياسة، وأنه من الوارد أن تتراجع شعبية أى سياسى فى العالم لسبب أو لآخر، حتى مع بعض هؤلاء الذين فازوا بنتائج استثنائية، وصحيح أن هناك نقداً لما كان يتوقع البعض من الرئيس السيسى أن يضعه على رأس الأولويات، أو أن يُسرِع فى انجازه، كما أن هناك رفضاً لبعض اختياراته، ولكن أى مراقب محايد يقرّ بأنه لا يزال يحظى، فى الحد الأدنى، بتأييد أغلبية مريحة. ومن الأمارات المُفحِمة لهذه الحقيقة هذه الأيام أن لا أحد من المرشحين يُبدى فى دعايته معارضة للسيسى، ولا أحد يدافع عن الإخوان ولا عن نهج رابعة. أسباب هذا التخفى، لمن يُضمر فى نفسه معارضة جذرية، هى التى تُشكِّل أكبر كابح أمام أى أغلبية فى مجلس النواب إذا عُرض عليها أن تخوض فى إجراءات الاستفتاء الذى يعرفون أن نتيجته سوف تؤدى إلى حلّ مجلسهم، لأنهم يعلمون أن أى استقطاب يواجِه فيه الإخوان وحلفاؤهم الجماهيرَ سوف يستفزّ فى الجماهير مكنونَ الرفض والعداء لهم. مع الأخذ فى الاعتبار أن من يدخلون البرلمان من خلال معارك رهيبة، يُنفقون فيها أموالاً طائلة، ويكرِّسون فيها جهوداً ضخمة لزمن غير قصير، ويتعرضون فيها لمواقف شديدة، هؤلاء يجيدون الحساب البراجماتى، ولا تنزلق أٌقدامُهم فى إجراء يبدد فوزهم فى الانتخابات، غير الآخرين الذين يتفرغون للغو ولإطلاق الشعارات فى الهواء. الطريف أن ماكينة الدعاية الإخوانية، التى تقودها مجموعة منتقاة من محدودى المهارات قليلى الخبرات قصيرى النظر ممن لا يتعلمون من الدروس، تركز فبركتها فى برامجها الهجومية، فى بعض الأحيان، على الحديث عن معلوماتها «المؤكدة» عن مطبخ يعمل على قدم وساق لتزوير الانتخابات البرلمانية لكى تكون أغلبية مجلس النواب تحت سيطرة السيسى، ثم إذا بخبراء هذه المجموعة فى أحيان أخرى، وربما فى نفس اليوم، يتحدثون عن الخطوة التالية عندما يسيطر المعارضون على مقاعد الأغلبية ثم تقرر عزله! دون بذل أدنى مجهود فى تفسير هذه اللخبطة! وإذا تركنا واقع السياسة إلى عالم الخيال، فإنه من الفوائد الكثيرة على المستوى العام، وبافتراض أن جاء ثلثا المجلس من المعارضين المتحمسين، أن يخوضوا فى هذه الإجراءات، ليتيحوا للناخبين فرصة تصويب خطأ السماح لهم أن يفوزوا، برفض طلبهم فى الاستفتاء وبحلّ المجلس. وهذه كلها ممارسة لإجراءات سياسية تجرى وفق الدستور والقانون، وتتعلم فيها الأجيال الصاعدة كيفية إدارة الصراع السياسى فى إطار سلمى. أما أكبر الخسائر الاحتمالية، فيكاد معظمها ينحصر فى إطار استطالة الفترة التى يغيب فيها البرلمان. وهى خسارة مفروضة، ولكن يمكن تحمُّلها إذا كان المقابل إلحاق هزيمة بالإخوان وحلفائهم فى صراع ممتد أكدّ الشعبُ فيه رفضَه لهم. لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب