أقرأ الآن وباستمتاع غير عادى مذكرات زوجة ديستويفسكى. ترجمها عن الروسية مباشرة فى ترجمة سلسة لا تقل جمالاً عن الأصل الدكتور: أنور محمد إبراهيم. ونشرها المركز القومى للترجمة. وتقع فى 630 صفحة من القطع الكبير. ومن شدة تواضع أنور إبراهيم وعرفانه بالجميل أنه أهدى الترجمة لذكرى الراحل العظيم المثقف والمترجم الدكتور: سامى الدروبي. والإهداء يعكس نبل وشفافية أنور إبراهيم لأنه يذكر الناس بجهد مثقف لولاه ما قرأنا الأدب الروسى مترجماً. وأنور إبراهيم يرد على من هاجموا الدروبى فى حياته ومماته بأنه كان يترجم الأدب الروسى عن الفرنسية. وصلتنى رسالته لدرجة أننى عندما جلست لأكتب عن المذكرات. فكرت أن أكتب أولاً عن سامى الدروبى لأجيال جديدة لم تعاصر الرجل. ولم تقرأ ترجماته العظيمة. ولكنى خشيت أن تأخذنى الكتابة عن الدروبى بدلاً من الكتابة عن أنور إبراهيم وزوجة ديستويفسكي. مذكرات زوجة ديستويفسكى سبق أن ترجمت فى دمشق قبل أن يجرى لدمشق ما يجرى لها الآن. ونكتفى نحن بالفرجة. ونضرب كفاً بكف. ونعتبر أن ما نفعله يكفى للتعبير عن موقفنا مما يجري. لكن الترجمة التى سبق أن نشرتها دار طلاس للنشر كانت مختصرة. وهذا باعتراف من أشرفوا على الترجمة ومن قدموها. ويبدو أن الاختصار كان عدواناً على النص. لأن حجم الكتاب الدمشقى عندما تضعه بجوار الكتاب المصري. تكتشف أن ما سبق ترجمته كان ملخصاً شديد التركيز للمذكرات. وأن عمليات التلخيص اعتدت على النص الأصلي. بل وشوهته تشويهاً تاماً. ومن قرأ النصين مثلى. سيدرك الفارق الضخم بين الترجمة المصرية والترجمة السورية. ما يعيب ترجمة دمشق أنه لا المترجم ولا المراجع وصاحب المقدمة تحدثوا عن جوهر مسألة الاختصار. ولماذا تمت؟ وعلى أى أساس جرت؟ وما هى الفلسفة التى حكمت عملية الاختصار. وفى تصورى أن هناك أشكالاً من الكتابة لا يمكن الاقتراب بالاختصار منها عند ترجمتها. وفى المقدمة منها المذكرات. فالمذكرات حديث هامس يحكيه صاحب المذكرات لمن يقرؤها. يحكمها منطق. ومكتوبة باعتبارها نجوى بين اثنين: صاحب المذكرات وقارئ المذكرات. حتى التجربة التى تمت فى الغرب مؤخراً لتلخيص واختصار روايات تولستوى. وقامت بها دار نشر كبري. وعهدت إلى روائية كبيرة أن تقوم بهذا العمل. وأنا عن نفسى لم أقرأ النص الملخص. لكن ردود الفعل على نشره كانت مخيِّبة للآمال. فما زالت الناس فى أوروبا تقرأ تولستوى الأصلي. ولم يقدم أحد على النص الملخص رغم ما قالته الدار عن التأنى فيه. وأن من قامت به روائية معروفة لها تجربة مهمة فى كتابة النص الروائي. لكن كتابة رواية شيء. وتلخيص رواية خصوصاً إن كانت رواية: الحرب والسلام أمر آخر تماماً. أخيراً عدت إلى بيتى ذات يوم وأنا أحمل مذكرات أنا جريجوريفنا ديستويفسكايا. عدت وأنا أحسد كُتَّاب الغرب. رغم أن روسيا تعد جزءاً من الشرق الذى ننتمى إليه. لكن فى مسألة الكتابة والخلق والإبداع كانوا أساتذة حتى للغرب نفسه. وما ميز كتابهم الكبار هو مذكرات أهاليهم عنهم. ما زلت أذكر أن ما كتبته ابنة تولستوى عنه لا يقل جمالاً وعذوبة عما كتبه تولستوى نفسه. فالابنة تكون قريبة من والدها. ربما تحبه أكثر من أمها فى بعض الأحيان. ولذلك جاء ما كتبته ابنة تولستوى نابضاً بالحيوية والجمال. وشكَّل إضافة حتى بالنسبة لما كتبه تولستوى عن نفسه فى سيرته الذاتية التى نشرت فى أجزاء. وحسب معلوماتى فإن الجزء الأول منها المعنون بالطفولة والصبا والشباب. هو الذى تُرجم إلى العربية. أما باقى الأجزاء فلم تتم ترجمتها. وربما يفيدنى أنور إبراهيم فى هذه المسألة. بالنسبة للأجزاء الأخرى من مذكرات تولستوي. هل ترجمت ونشرت؟ أم أن الرجل اكتفى بكتابة طفولتها وصباه وشبابه ولم يستكمل المذكرات. وإن أنسى لا أنسى الرسائل التى تبادلها أنطون تشيكوف مع جوركي. كان تشيكوف كاتباً ما زال يواصل البحث عن مشروعه. وكان بحثه يعلن تجلياته بمحاولة العثور على أسلوبه ورؤيته للعالم وطريقة كتابته. كان قلقه الذى أوصله لأن يوصف بأنه صاحب ومؤسس القصة القصيرة فى العالم ما زال يشغله. أما مكسيم جوركي. الذى أصبح كاتباً كبيراً ملء السمع والبصر. ورغم هذا رد على كل خطاب أرسله له تشيكوف. وخطابات الشاب والشيخ تقدم تجربة جيدة فى تعامل الأجيال مع بعضها فى واقع ثقافى أكثر نضجاً من واقعنا. رغم أن رسائل جوركى وتشيكوف جرت فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. لا يسألنى أحد عن الكتاب الذى يحتوى على رسائل جوركى وتشيكوف. فهو كتاب لا وجود له. ولولا أن الصديق الشاعر: شعبان يوسف، صوَّر لى صورة من الكتاب القديم الذى يحتوى على ترجمة هذه الرسائل. ما كنت قد تمكنت من قراءتها. ورغم أن المطابع تدور وإعادة الطبع لا تقل عن الكتب الجديدة. إلا أن أحداً لم يفكر فى إعادة نشر رسائل جوركى وتشيكوف. وأتصور أن رسائل جوركى وتشيكوف تصلح لأن تعاد طباعتها فى المشروع القومى للترجمة. ضمن سلسلة ميراث الترجمة الذى اقترحه وأشرف عليه وأخرجه للوجود المترجم الجميل: طلعت الشايب. فى المقدمة المهمة. والتى لا تقل أهمية عن المذكرات نفسها. والتى كتبها س. ف. بيلووف. ف. أ. تونيمانوف. يورد الكاتبان شهادات كتاب روس عن زوجة ديستوفسكى بعد أن رأوها وتعاملوا معها ودونوا رأيهم فيها: - ولقد شعرت من خلال هذا اللقاء الذى استغرق عشر دقائق، بديستويفسكى من خلال أرملته، إن مائة كتاب عن ديستويفسكى لم تكن لتعطينى ما أعطاه لى هذا اللقاء. لقد أحسست بأنفاسه قريبة مني. وأننى لعلى يقين أن هذا الجو موجود دائماً لديه مع زوجته. إن هذه المذكرات هى أكثر المذكرات التى كتبت عن ديستويفسكى صدقاً. وهى تعتمد على حقائق اختيرت وحققت بدقة، إنها حديث عن ديستويفسكى فى أكثر من فترات إبداعه خصوصية ( 18661881)، تلك الفترة التى وضع الكاتب فيها الروايات المآسى من «الجريمة والعقاب» وحتى «الإخوة كارمازوف». ولكن من هى أنَّا جريجوريفنا ديستويفسكايا صاحبة المذكرات؟! وماذا ترجم أنور إبراهيم؟. لمزيد من مقالات يوسف القعيد