ظلت الحياة الثقافية العربية منذ خمسينيات القرن الماضى تتلقى المسرحى الشاعر العظيم الألمانى برتولد بريخت، على اعتبار أنه كاتب مسرحى فى الأساس، ومن أوائل من كتبوا عنه فى مجلة «الرسالة الجديدة»، كان الكاتب الصحفى أنور عبد الملك، وذلك بعد رحيله فى الخمسينيات، ولذلك كانت ترجمة أعماله المسرحية والشعرية ضرورة حتمية. وعندما نهضت مشاريع ترجمة المسرح فى مصر، ترجم له الكاتب والقاص والشاعر والمترجم عبد الغفار مكاوى مسرحية «القاعدة والاستثناء»، وكانت الترجمة منقولة عن اللغة الأصلية التى كتبت بها المسرحية، أى اللغة الألمانية التى كان يتقنها مكاوى، وكتب لها مقدمة نقدية رصينة، أعادت التعريف اللازم ببريخت، وفك بعض المغاليق التى كانت تدور حول اسمه وأفكاره ونظريته فى الشعر الملحمى ونظرية كسر الإيهام التى كان يؤكدها بريخت فى غالبية نصوصه المسرحية، وكذلك تحدث مكاوى فى هذه المقدمة عن الاضطهاد، الذى تعرض له فى بلاده، مما اضطره إلى أن يغادر إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهناك تعرض لأشكال من التحقيق المفرط أمام محاكم المكارثية. وفى عام 1967 ظهرت أول مجموعة شعرية كبيرة لبرتولد بريخت، نقلها إلى العربية د.عبد الغفار مكاوى، وكتب لها دراسة ممتازة، يطوّر فيها ما كان قد بدأه فى مسرحية «القاعدة والاستثناء»، وفى 10 أغسطس سنة 1967، كتب الأديب علاء الديب فى مجلة «صباح الخير» مقالا نقديا عن تلك الترجمة البديعة. يقول علاء الديب فى مقدمة مقاله: «ليس هناك سعادة أروع من سعادة الإنسان عندما يعثر على كتاب جيد، تراها فى عيونه، فى سلوكه، وتنعكس السعادة على علاقته بالناس، وفى هذه الأيام صدر كتاب (قصائد من برتولد بريخت) ترجمة وتقديم الدكتور عبد الغفار مكاوى، صدر الكتاب عن دار الكاتب العربى فى شكل أنيق وطباعة جيدة». وهنا لا بد أن نشير إلى المجهود البالغ الذى كانت تبذله الثقافة الرسمية، ممثلة فى وزارة الثقافة، التى كان يديرها الدكتور والمترجم ثروت عكاشة، الذى أنشأ عدة مشاريع ثقافية عملاقة، شكّلت البنية التحتية للثقافة المصرية، والتى ما زلنا نتنفس إنجازات تلك الفترة حتى الآن، هذه الفترة التى تمت فيها ترجمة الكتاب الروس تولستوى ومكسيم جوركى وأنطون تشيخوف، وديستوفيسكى الذى نقله السفير سامى الدروبى فى ثمانية عشر مجلدا، وكذلك شهدت المرحلة ترجمات برنارد شو وتينسى ويليامز وكازنتزاكس، وجان بول سارتر، وسيمون دى بوفوار. ولا بد أن نقول إن هذه الترجمات تركت أثرا كبيرا فى الحركة الثقافية المصرية، وكان مترجمون عظام مثل عبد الغفار مكاوى ومحمد القصاص ومحمد غنيمى هلال ووحيد النقاش والدسوقى فهمى ومصطفى ماهر وفؤاد زكريا ومحمد إسماعيل محمد وسامى خشبة وعبد الرحمن بدوى ونعيم عطية وعبد العزيز الأهوانى وشفيق مقار وإبراهيم فتحى وغيرهم، ينقلون شتى أجناس الأدب والشعر والمسرح من كل لغات العالم، ومن أجل ذلك قامت سلاسل لترجمة الروايات العالمية، والمسرح العالمى، والفكر العالمى، أى أنه كانت هناك منظومة فعلية تعمل بشكل كبير، من أجل خدمة الثقافة والمثقفين على السواء. وكان عبد الغفار مكاوى فى قلب هؤلاء، رغم أن جهده كان موزعا على كتابة الشعر والمسرح والقصة والرواية والدراسات الأدبية، فإنه أنجز ترجمات عظمى، تربى عليها كتاب وشعراء ومثقفون على مدى عقود عديدة، ويظل سفر «ثورة الشعر الحديث»، الذى ظل يعدّه طوال أعوام الستينيات، حتى أنجزه ليصدر فى مجلدين كبيرين عام 1972، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وفى الجزء الأول يكتب مكاوى دراسة نوعية وعميقة عن الشعر فى أوروبا، وعن نشأته تطوره وازدهاره والعوامل التى كانت تعمل على تعويقه، والمحاولات الباسلة لدحض تلك المعوقات، ولم ينس مكاوى فى دراسته أن يتناول العلاقة السياسية بالشعر، والأثر الذى تتركه السياسة سلبا وإيجابا على الإبداع عموما. وفى المجلد الثانى نقل لنا مكاوى مجموعة كبيرة من الأشعار التى تنفس فى ظلالها الأوروبيون على مدى قرن كامل، منذ الفرنسيين آرتور رامبو وكتابه الشعرى المهم والملغز والمركب «فصل فى الجحيم»، ثم فرلين ومالارميه، وكذلك الإسبانى فريدريكا لوركا، والألمانى برتولد بريخت، والإنجليزى ت.س إليوت، والإيطالى إزرا باوند، وهو الأستاذ المباشر لإليوت، والذى كان يقف بوقا سياسيا للفاشى موسولينى، وبعد انهياره وسقوطه، هرب باوند إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وادعى الجنون حتى لا يقع بين يدى مواطنيه حتى يفتكوا به. ينقل لنا مكاوى ذلك الزخم الشعرى الأوروبى العظيم، بكل ملابساته وتعقيداته ونظرياته التى تأثر بها جيل شعراء السبعينيات فى مصر، ومنهم من تسللت نصوص قصيرة من هذا الزخم الأوروبى إلى قصائدهم العربية، وهذه قصة أخرى ليس مجالها تلك السطور القصيرة. وكانت قصائد بريخت التى صدرت فى عام 1967 مقدمة مهمة لكل إنجازات مكاوى فى حقل الترجمة فى ما بعد، ورغم أن بريخت كان يرى أن الشاعر لا بد أن يضع نفسه فى خدمة الاشتراكية بشكل مباشر، فإنه هو ذاته، كان يتجاوز ذلك الشعار، وتلك الرغبة، لأنه كان يدرك معنى الشاعر الذى يتجاوز كل النظريات، ولا يخضع إلا إلى صوته الخاص، لذلك صنع بريخت مسرحياته ورواياته وقصصه القصيرة، ولا بد أن نذكر هنا أن بريخت تعرض لحالات من الإفقار الشديد، التى اضطر على إيقاعها أن يكتب بضع روايات تجارية عن طرزان.