دخل الجنيه المصرى مرحلة جديدة من التطور والانخفاض، وذلك عقب التصريحات التى أدلى بها بعض المسئولين اخيرا،والتى أثارت العديد من التساؤلات والاستفسارات، واحتلت مكان الصدارة فى معظم الحوارات التى دارت فى المجتمع خلال الآونة الأخيرة خاصة بعد ان تراجع الجنيه المصرى امام الدولار والعملات الأخرى.وسلسلة الإجراءات التى قام بها البنك المركزى والتى ترتب عليها انخفاض كبير فى القيمة الخارجية للعملة المصرية مقابل الدولار الأمريكي. الأمر الذى استتبعه بالضرورة التساؤل عن مستقبل الجنيه المصري؟ وقبل الاجابة عن هذه التساؤلات وغيرها تجدر الاشارة الى ان قضية ادارة اسعار الصرف والنظم المرتبطة بها عموما قد اصبحت من اهم القضايا التى تواجه بلدان العالم اجمع (المتقدم والمتخلف) خاصة منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، ومع التغييرات والتبدلات التى جرت على الساحة العالمية عموما والنظام النقدى على وجه الخصوص. وذلك عقب انهيار نظام الصرف الثابت والقابل للتحويل والدخول فى مرحلة التعويم الجماعى للعملات، ومنذ ذلك التاريخ دخل النظام المالى والنقدى العالميين فى مرحلة متتالية من الأزمات والتى برزت بشدة وازدادت حدتها منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي. ومن الطبيعى ان يتم الاهتمام بهذه العملية لما لسعر الصرف من آثار وتداعيات ليس فقط على الاقتصاد القومى فحسب ولكن وهو الأهم على المجتمع المصرى ككل. والمتتبع لتطور قيمة العملة المصرية وسياسات الصرف الأجنبى يلحظ على الفور مدى التغيير والتبدل الذى طرأ على الاثنين، بغية ايقاف التراجع فى قيمة الجنيه المصرى او على الاقل الحد من المضاربات التى تطفو على السطح بين فترة واخرى. وذلك عن طريق تخفيف القبضة على سوق الصرف. واتبعت الحكومات المختلفة سياسة نقدية افضت فى النهاية الى تخفيضات (رسمية او فعلية) للجنيه. الامر الذى ادى الى سيادة نوع من الفوضى والارتباك فى سياسات الصرف الأجنبي. وأصبح الجنيه المصرى يعانى من أزمة حقيقة بكل معانى الكلمة. فالتعريف العلمى لأزمة العملة ينصرف الى «الحالة التى يحدث فيها هجوم كبير على عملة بلد ما وينتج عنه انخفاض شديد فى قيمتها، يقدره البعض بنحو 25% سنويا على الأقل مع زيادة هذا الانخفاض عن السنة السابقة بمعدل 10% سنويا، او تدهور فى الاحتياطات الدولية نتيجة لإجبار السلطات على الدفاع عنها عن طريق إنفاق كم هائل من الاحتياطات. وبالتالى فالتعامل مع قضية «سعر الصرف» يحتاج إلى معاملة خاصة تنسجم مع طبيعته والعوامل المؤثرة فيه، وذلك فى ضوء اتساع دائرة الآثار التى تنتج عن تغييره.نظرا لما لسعر الصرف من خصوصية، مقارنة بباقى الأسعار، هذه الخصوصية تتشابه إلى حد كبير مع سعر الفائدة، فكلاهما يتعلق بتبادل بين وسائل الدفع فى شكل نقود أو صكوك دائنية او مديونية، وكلاهما مع اختلاف فى التفاصيل يتحدد بعرض وطلب مشتقين من عرض وطلب السلع والخدمات، لأغراض الاستهلاك والاستثمار. من هذا المنطلق يمكننا مناقشة سياسة الصرف المثلى التى تحقق السعر التوازنى للعملة. هذا مع تسليمنا الكامل بصعوبة الامساك بفكرة التوازن خاصة عندما يكون المستوى العام للأسعار بعيدا عن التوازن. وقبل التعرض لهذا الموضوع لابد من تصحيح بعض الأخطاء الشائعة والمتداولة فى هذه المسألة، إذ يخلط البعض بين التخفيض والانخفاض.فالتخفيض عمل إرادى يتم فى إطار سياسة اقتصادية ونقدية متكاملة تهدف إلى تحقيق بعض الأهداف الاقتصادية للدولة، أما انخفاض قيمة العملة الذى يبلغ حد التدهور إذا ما استمر بمعدلات مرتفعة ومتراكمة فيعبر عن محصلة تفاعل قوى السوق وما يعانيه الاقتصاد القومى من اختلالات هيكلية من شأنها استمرار وتراكم عجز ميزان المعاملات الجارية. وتأتى صعوبة هذه المسألة فى ضوء الدور المزدوج الذى يلعبه سعر الصرف فى الاقتصاد القومي، إذ يعزز القدرة التنافسية للبلد مما يكفل سلامة ميزان المدفوعات كما يعمل على تثبيت الأسعار المحلية (اثر الثروة). وبمعنى آخر فإن سعر الصرف يعمل أثره من خلال التأثير على الإنفاق، وذلك أساسا من خلال تغيير الحوافز النسبية بين المعروض المحلى للصادرات وبدائل الواردات، والإنفاق المحلى على الواردات وسلع التصدير. وتتوقف هذه الحوافز على أسعار سلع التبادل التجارى بالعملة المحلية بالقياس الى التكلفة المحلية (الأجور والمواد الخام وتكاليف عناصر الإنتاج الأخرى) والأسعار المحلية التى لايتم تبادلها تجاريا. وهذه الأهداف قد تتعارض مع بعضها البعض، وبالتالى فإن مناقشة المفهوم الأمثل لإدارة الصرف الأجنبى لابد ان تتم فى ضوء عدد من العوامل المهمة مثل الأهداف الاقتصادية لدى راسمى السياسات والهيكل الاقتصادى للدولة ومصدر الصدمات التى تلحق بالاقتصاد من هنا فإن تحديد الهدف سيحدد المتغيرات المستهدفة، وعندئذ يمكن الحديث عما يسمى «سعر الصرف التوازني» الذى يتسق مع المتغيرات الرئيسية، وليس ذلك السعر الذى تحدده المضاربات. وبالتالى فإن المستوى السليم لسعر الصرف لا يمكن ان يتحدد فى نهاية الأمر، إلا بالاستناد إلى فكرة التوازن العام أى بحث التفاعل بين سعر الصرف والمتغيرات الرئيسية الأخرى للاقتصاد الكلى، والتى لا تتأثر جميعها فى نفس الوقت بسعر الصرف فى حد ذاته فحسب، بل تتأثر بالسياسة العامة للدولة.فعند ظروف اقتصادية معينة، يمكن تعديل أسعار الصرف، بدرجة معقولة ولكن شريطة الإدراك التام لجميع العوامل والعناصر المؤثرة على هذه العملية واحتمالاتها المستقبلية. وهو ما يتوقف على طبيعة النظام الاقتصادى للدولة او مدى الثقة فى العملة، والاستقرار السياسي، وطبيعة الأسواق المالية ومدى تحررها من القيود. فالمسألة ليست «التثبيت الدائم» أو «المرونة الكاملة». ولكن درجة المرونة المطلوبة فى ظروف معينة. والمدخل الثانى هو تعريف سعر الصرف الحقيقى على انه السعر النسبى بين السلع القابلة للتجارة الدولية والسلع غير القابلة للاتجار فإذا ارتفع السعر المحلى للسلع القابلة للاتجار بالمقارنة بالسلع غير القابلة فإن ذلك يعنى إعادة تخصيص الموارد لمصلحة الأولى. وبهذا المعنى يصبح سعر الصرف الحقيقى هو ذلك الذى يناظر السعر النسبى بين السلع التجارية والسلع غير التجارية. ومن الملاحظ ان الجنيه المصرى يشهد منذ فترة ليست بالقصيرة سلسلة من الانخفاضات المتتالية والمتعاقبة مما أدى الى ازدياد المضاربة على الجنيه المصرى وازدياد الطلب على العملة للمضاربة وليس لأغراض التعامل التجارى العادي. ومن المعروف ان أسعار الصرف المغالى فيها تعنى مساواة متوسط أسعار عوامل الإنتاج المحلية بمتوسط أسعار عوامل الإنتاج الأجنبية بالرغم من اختلاف الإنتاجية بينهما وبالتالى لا يسمح هذا السعر بإعمال قوى السوق لكى يتم تخصيص الموارد بين مختلف الاستخدامات على النحو الأمثل .هذا فضلا عن الآثار السلبية الأخرى سواء تمثل ذلك فى خفض القدرة التنافسية للصادرات حيث يقلل الارتفاع فى أسعار الصرف من الحوافز لإنتاج السلع التصديرية كما انه يؤدى إلى نوع من الإضرار بالزراعة والمناطق الريفية نتيجة لتحيز شروط التبادل الداخلية ضد الزراعة مع ازدياد الحاجة لاستيراد الغذاء. وهكذا يتضح لنا بما لا يدع مجالا للشك ان ما يحدث فى سوق الصرف حاليا يرجع الى عوامل هيكلية فى الاقتصاد القومى تتعلق بأوضاع ميزان المدفوعات والسياسات النقدية والتجارية والمالية.. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي