هل تواجه مصر والسعودية والإمارات الآن حرجا مع الولاياتالمتحدة حين يتجهون لبناء علاقات مع روسيا؟ ولماذا لا تبدي الولاياتالمتحدة أي رد فعل من تطور علاقات العرب بروسيا؟ هذان السؤالان ينبثقان مما نراه من تحولات تبدو غير منطقية، بحكم ما رسخ في أذهاننا من القواعد الكلاسيكية في العلاقات الدولية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، والتي استمرت بعض ملامحها حتى موجة الثورات العربية 2011. فخلال تلك الحقبة من تاريخ العالم لم يكن يتصور أن تسلك دولة سلوكا يبدو وكأنه انقلاب على علاقاتها بالقطب الدولي الذي ترتبط به، كان ذلك جليا حتى سقوط الاتحاد السوفييتي في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وبعده استمرت الولاياتالمتحدة في تتبع مستقبل روسيا ومحاصرتها، والانزعاج من علاقات الدول الأخرى معها، خصوصا لو كانت تتضمن شراكات عسكرية. الصورة الجديدة اليوم أن الرئيس السيسى والملك سلمان والشيخ محمد بن زايد والملك عبدالله الثاني، وكافة المسئولين العرب، يجوبون روسيا فى كل أشهر العام، دون أن تبدى أمريكا علامات امتعاض، وهو أمر يثير الاستغراب بالمنطق القديم للعلاقات الدولية. ففى الخمسينيات، وحين أراد الرئيس عبد الناصر إبرام صفقة الأسلحة التشيكية، أخطر الولاياتالمتحدة أولا، وانتظر نحو ثلاث سنوات يتردد على أبواب الغرب قبل اتخاذ القرار، وحين تأكد من أنه ليس أمامه حل آخر اضطر لإتمام الصفقة، على حد ما قال هو نفسه لصحيفة «نيويورك تايمز» بتاريخ 6 أكتوبر 1955. الآن تعقد الدول العربية صفقات بعشرات المليارات مع روسيا، للصواريخ والطائرات والمفاعلات النووية والبوارج العسكرية، وتعقد اتفاقيات خاصة بالتعاون فى مجالى الفضاء والاستخبارات، ولا رد فعل أمريكيا واحدا. فهل يعكس ذلك تحولا استراتيجيا فى إدارة شئون العالم، وضربا من التطور الطبيعى للعلاقات الدولية، أم يمكن أن تحدث انتكاسة مجددا لنعود لنمط الصراع العالمى الكلاسيكي؟ وهل حدث توافق ضمنى بين الولاياتالمتحدةوروسيا بشأن العالم العربي؟ أم هو انصراف أمريكى عن شئون الشرق الأوسط، أم لا تزال هناك مخاطرة فعلية يتحملها صانع القرار العربى فى بناء علاقته بروسيا؟ جديد علاقة القطبين خلاصة السياسة العربية على مدى السبعين عاما الماضية، أن روسيا أكثر ارتباطا بالقضايا العربية من الولاياتالمتحدة، وأنها أكثر التزاما بالقانون الدولي، وتحترم عالم الدول، ولا تفرض ثقافتها على الشعوب رغم غناها وثرائها الروحى والإنسانى والتاريخي، وأنه تحت أى ظرف من المفيد للعرب الإبقاء على العلاقة مع روسيا، وأن روسيا هى اللاعب الدولى الذى فتح ذراعيه للعرب على الدوام، حتى دول الخليج المحسوبة كلاسيكيا على أمريكا، حين اقتربت من روسيا مؤخرا اقتربت روسيا منهم، ولم تعاملهم بفتور أو بمنهج عقابى على علاقتهم بالأمريكان، وإنما ببراجماتية ومصلحية، ورؤية حكيمة لتحولات الواقع الدولي. وكل ذلك يجعل هناك مبررات عربية لبناء علاقة جيدة مع روسيا. لكن أحد الأسباب الأساسية فى تحولات التفكير الأمريكى فى علاقة العرب بروسيا هو الانتكاسات التى واجهتها السياسة الأمريكية فى السنوات الخمس عشرة الماضية، خصوصا حربى العراقوأفغانستان، وخسارة الرهان على الثورات العربية، وتراجع المصالح الأمريكية مع منطقة الخليج مع هبوط أسعار النفط وبروز أمريكا كدولة إنتاج ثم تصدير، والاتفاق النووى مع إيران 2015، الذى قلص مكانة دول الخليج العربية فى الاستراتيجية الأمريكية، مع الاتجاه الأمريكى إلى التوفيق بين العرب وإيران، وهى السياسة ذاتها التى يمكن أن تخدّم عليها روسيا أفضل تخديم، ومن ثم يمكن تصور أن تقوم روسيا بدور الراعى للمصالح الأمريكية فى المنطقة. تسليم مفاتيح وكانت إدارة أوباما قد ظهرت منذ فترة غير عابئة بالتطورات فى علاقات روسيا بالمنطقة، بل برزت مؤشرات عملية على ما يشبه «التسليم والتسلم» بين الجانبين الروسى والأمريكى لمفاتيح القضايا بالشرق الأوسط. وتركت هذه العملية الانطباع بأن المنطقة أصبحت متروكة لمن لا يزال لديه النية والإرادة لتحمل المسؤولية فيها من القوى العظمي. ومن ثم، لم تعد هناك إمكانية للدول الإقليمية أو الصغيرة اللعب على تناقضات القطبين، ولم تعد الحياة الدولية مباراة صفرية، وإنما عملية تسعى فيها الأقطاب إلى تحقيق معادلة الكل رابح. ويؤكد ذلك ملامح التوافق الروسى - الأمريكى حول سوريا، ومباركة روسيا للاتقاق النووى بين إيران والغرب. ويبدو الوضع بالمنطقة حاليا، وكأن أمريكا قررت منح روسيا فرصة لتجريب رهانها، فإذا كان الرهان الأمريكى على الحريات والديمقراطية والإخوان قد فشل، فقد ينجح الرهان الروسى على تحقيق الاستقرار من خلال تكريس الأمر الواقع والأنظمة القائمة والحلف ضد الإرهاب، وهى المعادلة الأمريكية القديمة ذاتها. والآن لم يعد الهدف الأمريكى مع المنطقة جنى ثمارها وخيراتها، وإنما بالأساس تجنب شرورها وسيئاتها، وهو ما يعنى أن روسيا مؤهلة لدور فى المنطقة قد يمتد لسنوات، تجنى فيها الولاياتالمتحدة ثمار الاستقرار فى منطقة، إن لم تعد فعليا منطقة مصالح، فعلى الأقل جسر عبور استراتيجى للمصالح الأمريكية الجديدة مع آسيا. وتدفع النجاحات الاستراتيجية لأوباما الولاياتالمتحدة إلى تتويج عهده باستدارة استراتيجية كبري، ليس فقط نحو الشرق، وإنما فى العلاقات الدولية عامة. فلقد نجحت الإدارة فى وقف النزيف الأمريكى فى حربى أفغانستانوالعراق، وحققت الاكتفاء من النفط، وأبرمت الاتفاق النووى مع إيران، وتفاهمت مع روسيا، ونجحت فى عدد من الملفات الداخلية المزمنة، وكل ذلك ربما حفر بأذهان صناع القرار الأمريكيين خيالا سياسيا جديدا يستهدف تعظيم التحول الامبراطورى إلى عصر ما بعد السياسة وما بعد الحروب، حيث تكون فيه القوة الناعمة الأمريكية هى الأساس، مع ترك الصراعات الخشنة للآخرين الذين يتجهون لتحقيق المصالح الأمريكية فى النهاية. عناصر الاستمرارية مهما كان تقييمنا السلبى لإدارة أوباما من منظور المصالح العربية، فسوف تظل فترته من الفترات الاستثنائية فى التاريخ الأمريكي. لا يمكن الاختلاف على أنها أدخلت تغييرات كثيرة فى قواعد وأصول العلاقات الدولية، فشدتها نحو التوافق، وأبعدتها عن منطق الصراع الحتمي، وجذبت السياسة الامريكية إلى اقصى مدى ضد الأفكار المحافظة ونظريات المباراة الصفرية، وقدمت تصورات غير تقليدية لقواعد العلاقات الدولية، وفى عهده أكدت أمريكا قدرتها على التجديد فى أسس وقواعد الإمبراطورية، بإلقاء الحمولة والأثقال التى تسقط القوى العظمى بعد صعودها، مستفيدة من نظرية بول كينيدي، أحد أشهر المؤرخين المعاصرين على المستويين الأمريكى والعالمي. وتستطيع أى إدارة جمهورية مقبلة أن تنسف تحولات عصر أوباما، وأن تعيد الحياة الدولية إلى منطق الصراع والمباراة الصفرية، ولكن سيظل الوعى العالمى والأفكار الارتقائية التى أحدثتها إدارته مقياسا لإمكان الوصول بالعالم إلى محطة استرخاء حقيقية، ولن تستطيع إدارة جمهورية إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، وسوف يتعين على أى إدارة تالية التجديد فى نظريات الهيمنة والعداء، وإعادة قراءة الخريطة العالمية. وفى النهاية سوف تكون السياسة الأمريكية فى السنوات المقبلة تحت مطرقة الذاكرة الجديدة التى سيختزنها الشعب الأمريكى عن إدارة أوباما، التى تمكنت من كسب الأصدقاء وتقليص أعداء أمريكا فى العالم، وانتقلت من «أمريكا بوش» المكروهة عالميا، إلى أمريكا التوافقية والأقل صراعية، والعازفة عن التدخل المزعج فى شئون العالم. ومن العوامل التى ستؤثر فى استمرارية التوافق الأمريكى - الروسى بشأن المنطقة بروز الائتلاف الإقليمى ضد قوى العنف والتخريب الجهادية، فالقضية المركزية للمنطقة الآن هى قضية الإرهاب الذى يفتك بالدول القائمة، ومن المرجح أن يستمر هذا الائتلاف الإقليمى – الدولى لسنين مقبلة، وفى ظل عزوف الولاياتالمتحدة عن مواجهة الإرهاب والحرب معه، مع استمرار رغبتها فى القضاء عليه، فإنها توظف القوة الخشنة الروسية، مادامت ضمنت تحقيق أهدافها ومصالحها، مع تلافى ضربات قوى الإرهاب وجماعاته القاسية فى الداخل الأمريكى وضد وجودها فى الخارج. علاوة على ذلك، فإن تطوير القدرات العسكرية العربية، والصفقات العربية مع روسيا، أصبحت خيارا أقل إزعاجا للولايات المتحدة وإسرائيل، فى ضوء إدراك البلدين بالائتلاف الاستراتيجى الخليجى المصرى الروسي، الذى لا ينطلق بالأساس إلى تصويب أسلحته نحو إسرائيل، وإنما نحو قوى العنف والإرهاب الداخلي، وقوى التمرد والعصيان فى سوريا وليبيا واليمن، وضد جماعات داعش والقاعدة والنصرة، والأهم لإحداث التوازن مع إيران. هكذا تغيرت النظرة الأمريكية والإسرائيلية إلى التسلح العربى من روسيا باعتباره جزءا لا يدخل ضمن الاتجاه التراكمى لمحصلة القوة العربية ضد إسرائيل، وإنما سعيا إلى تعويض الفاقد منها فى الصراعات الداخلية والثورات، وهو أمر من شأنه تليين مواقف اللوبى اليهودى فى واشنطن من التقدم المحرز فى العلاقات العسكرية العربية مع روسيا. احتمالات التأزم ما تقدم يعنى أن المسار الراهن فى العلاقات المصرية - الروسية لا علاقة له بمسار العلاقات المصرية - الأمريكية، وأن الولاياتالمتحدة لم تترك فقط دول المنطقة تبنى علاقتها مع روسيا، بل إنها ربما تكون هى التى استهدفت تشجيعها على ذلك، وأن المدخل الأمريكى مع المنطقة لم يعد بناء محاور مع الدول العربية لمواجهه روسيا، وإنما التوافق مع روسيا أولا حول المصالح الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة، ثم طمأنة اللاعبين الإقليميين، خاصة أن روسيا طرف مقبول من كل الأطراف، وهى الأقدر على الوصول بالمنطقة إلى شراكات سلام تحقق مصالح الجميع. ويبقى السؤال: هل هناك احتمالات لتأزم العلاقات المصرية مع الولاياتالمتحدة مستقبلا بسبب تطور علاقات مصر مع روسيا؟ هنا تبرز ثلاثة عوامل من المرجح أن تكون مؤثرة فى مدى انزعاج السياسة الأمريكية من التواصل المصرى الروسي: أول هذه العوامل، هو نوعية الإدارة الأمريكية المقبلة؛ فإذا حلت إدارة من الحزب الجمهورى (منتمية إلى المحافظين الجدد تحديدا)، فإن كل التطور الذى شهدته سياسة الولاياتالمتحدة بشأن المنطقة سيكون محلا لإعادة التفكير، وسوف تجرى محاكمة عهد أوباما واتهامه بأنه أهدر المكانة الأمريكية، ومن المرجح أن تنقلب هذه الإدارة على سياسة أوباما بأشكال وحجج يتفهمها الأمريكيون، ومن ثم تعود حالة الصراع القطبى ثانية إلى العالم. وثانى هذه العوامل مضمون ومدى التعاون العسكرى والنووى المصرى مع روسيا، وهل يقتصر على المفاعلات السلمية، وهو مجال ستراقبه الولاياتالمتحدة جيدا، ليس فقط مع مصر، وإنما مع السعودية، وغيرها من الدول العربية التى قد تغازلها تجربة إيران. وثالث العوامل حدود التوافق العربى مع روسيا، وإمكان إحياء تحالف عربى راديكالى معادى للغرب بالمنطقة، تدفعه نشوة النجاح فى وقف حالة الانهيار العربى وإعادة الدولة فى اليمن وغيرها، نحو تفكير ما لتجديد نموذج التوافق القومى المعادى لإسرائيل.