تخرج من مدرسة أديب العربية الأكبر نجيب محفوظ غاص وراءه فى تاريخ مصر وهام بتفاصيله وقيمه الجمالية الرفيعة، وكما هام نجيب محفوظ بالتاريخ الفرعونى وبدأ به سكة سفره التى قادته الى المجد فإن استاذى جمال الغيطانى مشى على نفس الدرب ومشيت على دربه، ورغم إننى لم أره إلا مرة ولم أتبادل معه كلمة ومع ذلك هو أستاذى بكل معانى الكلمة، فقد بلغ حبى لمصر الفرعونية وأنا اقتفى أثره أن أهملت بقية تاريخ مصر، بل ورحت أنظر بعين الريبة إلى الفترة المملوكية وأشعر بالاختناق كلما حاولت التوغل فيها، حتى أثر ذلك على علاقتى بالآثار المملوكية في المساجد والاسبلة والتكايا. لكن مع كتابات جمال الغيطاني، وجدته يمسك بيدي ويجول بي في الأروقة والحارات لألج وراء خطواته أبواب المساجد وأصعد معه المآذن والقباب وأجلس في ظل التكايا وأشرب من ماء الأسبلة. هل تصدقنى لو أخبرتك أننى في كتاب له كنت أجول معه في السطور، فيستوقف رجلا إذا به السلطان حسن ليحكي لنا قصة بناء أروع وأعظم أثر إسلامي في التاريخ، كذلك عرفنى شخصيا على السلطان المؤيد ولا أنسى الضيق الذي انتابنى وهو يحدثنا عن فترة سجنه قبل توليه السلطنة وكيف نذر أن يبنى مسجدا مكان سجنه، صار بمئذنتيه فوق باب زويلة، رمزا لمحافظة القاهرة الآن.
وكم أدخلنى إسطبلات الخيل وسرنا معا في ركاب الخلفاء والسلاطين، نشرب عصير الليمون من الأسبلة في العيد ونأكل «أم على» مع الحرافيش احتفالا بانتقام زوجة أيبك من ضرتها السلطانة العظيمة شجر الدر!. وفي كل خطوة في الغورية والمعز وجوهر القائد، كان يحكي لي القصص عن الأمراء والسلاطين ومواكب الانتصار وليالي الانكسار!. ليس المماليك ولا الإخشيد ولا الفاطميون فقط، فهو على علاقة بالطولونيين وتربطه علاقة وثيقة بخماروية ولعله كان على رأس المدعوين في حفل زفاف ابنته الأميرة أسماء الشهيرة ب»قطر الندى» على الخليفة المعتضد في بغداد. رأيت مرة أستاذي الغيطاني يركض أمام القلعة مع الجماهير ويتقدمهم رجل على حمار يضع على رأسه قبعة تشبه الطبق فركضت بجواره لأسأله: من هذا يا أستاذ جمال؟! ألا تعرفه.. إنه أبو طبق.. الأغا المتخصص في إبلاغ الباشا في القلعة بعزله ويقوم بإنزاله من على كرسي الولاية تنفيذا لأمر الباب العالي ثم يفرش السجادة أمام الوالي الجديد وهو طالع الكرسي والناس هنا يسمونه «أبو طبق» لأن قبعته كما تراها مثل الطبق وظهوره يعنى تغيير الوالي. ولا أخفيكم أنى كثيرا ما كنت أتعب من الأستاذ جمال، فهو يمكن أن يجلس بالساعات مع بن إياس يراقبه وهو يكتب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» وهو يجلس أمامه مثل المريد أمام الشيخ كما قال لي في أحد كتبه. وغير هذا وذاك فكم من مواقف ومعارك واحتفالات أحضرنى فيها جمال الغيطاني صاحب الكلمة البديعة التى نقلها لي أحد زملائي من الذين عرفوه عن قرب: «القراءة متعة ولكن العمر قصير» ولو كتبت ما تعلمته لقصر بي المجال وربما العمر، فلست بمستسلم للندم على تضييع فرصة اللقاء بجمال الغيطاني والحديث معه وجها لوجه، فإن أكثر وأعظم من علمونا وتعلمنا منهم، تفصل بيننا وبينهم السنون والقرون ومع ذلك فأكثر أفكارنا كانت نتاجا لعقولهم!.