على يديه آثار العمل، وبين دفتى صدره سفينة عنوانها الأمل، تفوح منه رائحة الشرف عرقاً زكياً، ويُعبق الحياة من حوله بأريج اليقين فى وطنه مصر، هو عامل من آلاف العمال المصريين، الواقفين على باب الأمل فى غد يستعملهم ولا يستغفلهم، هو ترس فى ماكينة السعى على لقمة عيش، حرصت عهود الاستبداد على أن تحيلها وحشاً يُطارد كل أمانى العامل المصرى ويحاصر تطوره ويبيع كل أحلامه بالخصخصة أوبالإفساد، هو خميرة أصيلة اجتُثت من معين العامل المصرى حين يؤمن بموهبته فيذود عنها ضد كل متربصى البيروقراطية، وعَبَدَة اللوائح، ومقدسى الثبات، هو ابن واحدة من رموز البناء الوطنى المصرى مدينة المحلة، هو البطل المصرى العالمى العامل فى قسم صيانة النسيج بشركة مصر للغزل والنسيج، رامى الجزار الذى رفع علم مصر فى بطولة أمريكا المفتوحة للسومو، بعدما حصد لاسم وطنه المركز الأول فى الوزن الثقيل، متغلباً على بطل العالم المنغولى «بايامبافاج»، وهو البطل الذى لم يخسر مباراة واحدة على مدار 9 سنوات، كما حصل على المركز الثانى فى الوزن المفتوح، ليهتف 7000 مشاهد باسم مصر التى حصل ابنها رامى على ميداليتين ذهبية وفضية. هكذا يمكن أن نرى «الجزار» البطل فى زمن يتم التآمر فيه على واقعنا عبر سياسة «اجترار الهزائم»، لا يعنينا إن كانت رياضة «السومو» أو «الجودو» من الرياضات ذات الجماهيرية الواسعة، كما لا ينبغى التوقف عند حجم البطولة التى شارك فيها على كونها من الأكبر عالمياً- أو حتى عدد البطولات التى حصدها محلياً وإفريقياً وعالمياً قبل أن يتوج الجزار المصريٌ بطلاً للعالم، غير أن مهددات اللحظة التى نحياها تحيلنا إلى التوقف عند بعض محطات فى رحلة البطل المصرى . رامى من مواليد 15 يوليو 1985م، ورحلته مع الرياضة التى اختارها طريقاً لتَحَقُقِه بدأت منذ كان فى السادسة من عمره، وعمل بشركة مصر للغزل والنسيج ثم أصبح مدرباً لفريق «الجودو» بها مقابل راتب 140 جنيهاً !، وبعدما بدأت معالم طريقه إلى النجاح تتضح، طلب من الشركة التفرغ للرياضة لكن الإدارة رفضت، وواصل طريقه رغم ذلك، وحصل على كأس العالم ببولندا 2014م، ومع مطلع العام الحالى فاز بذهبية وفضية بطولة العالم بالمجر. ثم كان أن تلقى دعوة من بطولة أمريكا المفتوحة، لكن الاتحاد المصرى للجودو والأيكيدو والسومو،رفض تحمل نفقات المشاركة فى البطولة، والسبب (لا توجود ميزانية)، وواصل البطل رحلته على نفقته الخاصة ودونما حتى إجازة مدفوعة الأجر من الشركة الوطنية التى يعمل بها. انتهت المحطات الأولى لرحلة بطل ندعو الله أن تستمر مشاركة ثم تدريباً، وبقى أن يطول وقوفنا عند نتائج هذه المحطات التى تسلمنا النتيجة الأولى فيها إلى يقين لا ينتابه شك فى عبقرية الشخصية المصرية المقبلة، فبطلنا ابن صرف لعهد أسقطه استبداده وفساده، ممثل لجيل كامل نما وترعرع فى أحضان انهيار فى التعليم وتسطيح للثقافة واستثمار للدين وتجارة بالصحة، وتلويث للهواء والماء والغذاء، جيل كامل تجاوز انكسار (السح الدح امبو)، وراح يغنى رافضاً واقع من سبق عبر البكاء على (الشبشب اللى ضاع)! جيل اتهمه كل الكبار حوله بأنه (غير أهل للمسئولية)، وغير قابل للإصلاح، ومحدود الحلم والأمل ومهدود الحيل والعزيمة. وعندما قامت 25 يناير 2011م، زايد عليه ثوار الفضائيات، وتاجر بيقينه تجار الروحانيات، وأسقطه الكل من حسابه، لكنه رغم كل هذه المعاول للهدم يؤكد عبر ممثل عنه (رامى الجزار) أنه جيل كادح (يعمل فى مصنع للغزل)، وجيل يملك الإصرار على الحلم رغم كل معوقات الواقع، وجيل يحمل فى قلبه علماً خفاقاً لوطنه رغم إحباطات إدارييه، قال رامى (يكفينى أنى أنفقت على البطولة لأرفع علم مصر). ومع العَلَمْ المصرى تحيلنا النتائج إلى الواقع الإدارى الحكومى ومدى قدرته على رعاية أحلام الجيل الحالى والأجيال المقبلة، فنحن أمام واقع لموهبة مصرية صقلت نفسها بنفسها، ودافعت عن موهبتها حتى بلغت العالمية مرة وثانية وثالثة ورابعة، ولم يشفع لها الوصول عن المثول فى حضرة التيه الوظيفي، فلا استشعرت إدارة الشركة التى يعمل بها بطلنا وزنه، ولا أدرك أهل التخصص فى الاتحاد قيمة الجوهرة التى بين أيديهم، ولا تابعت وزارة الشباب وجهاز الرياضة مسيرة كان يجب أن تنطلق من ساحتهما بمباركة كبار المسئولين، هذا الواقع الصادم لكل طموح هو الذى يطبق على صدر الجيل الذى يمثله «رامى الجزار». وتقذف النتائج فى وجوهنا سؤالاً (كم رامى الجزار أنجبت وتنجب مصر فى جميع المجالات الحياتية؟)، وكم منهم خاف نجوم العهود الماضية من أن تهدد المواهب البكر تَصَدُرَهُم، فقرروا وأدها فى سراديب المنظومة الإدارية، أو أخضعوا مواهبهم لسيوف الحاجة فتحولوا إلى خدم منسحق لأجيال شاخت؟، وكم منهم يصارع اكتئابه بعدما عاين موهبته تُدفن وهو لا يملك لها غوثاً ؟ الإجابة على هذه الأسئلة تتجاوز ضيق مسئولية الباحث أو الكاتب إلى شمول مسئولية (الدولة الراعية)، وهو ما يعنى ترجمة عملية لهذه الأسئلة، تتمثل فى (لجنة وطنية لصناعة البطل المصري) يُنبتها (مشروع بناء وطنى متكامل)، وتتجاوز فى فعلها كل بيروقراطية الدوائر الحكومية، وتتكون أمانتها من شباب متحقق فى شتى الفروع، ولا يمثل فيها الكبار إلا من خلال وحدة استشارية. إن صناعة الأمل فريضة فى أزمنة الحرب، وبلا شك نحن نعيش فى حالة حرب، تتجاوز الحروب التقليدية شراسة، وتتعدى فعل الجيوش إلى الفعل الوطنى الشامل بناء لوطن يراهن كثيرون على هدمه، وواقع كهذا بحاجة إلى دماء جديدة تدفع مجداف سفينته، تمتلك من حلم (رامى الجزار) ألقه، ومن عزمه وإصراره وهجهما، ومن القدرة على تبنى الحلم ما يجعلها أمينة على مستقبل نتطلع إليه. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى