مصر الآن فى حاجة ماسة لوقفة مصيرية لكى يوفر التعليم لها أجيالا تحفظ لغتها وثقافتها، ولتقود مسيرة نهضتها إلى آفاق النمو المنشود، اجيالا تجد فى التعليم المصرى المنهج والأرضية التى تمكنهم من التفاعل مع عالم اليوم بتقنياته المعقدة وفرص عمله المحدودة ولقد كانت المدرسة دائما مكانا للتربية قبل التعليم لعقول غضة طرية على حزمة من القيم والمبادئ الأخلاقية التى بها يستقيم نسقهم الثقافى والاجتماعى على نحو يجعلهم عناصر صالحة لتحمل مسئولياتهم نحو مجتمعهم الصغير وبلدهم الكبير، لكن شيئا ما حدث منذ تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادى فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى الذى أطلق عليه الكاتب الراحل الكبير أحمد بهاء الدين بحق وصف «السداح مداح»، فمع ان الانفتاح ذاته كان امرا لابد منه، إلا أن الوتيرة التى تم تطبيقه بها كانت على عجلة من أمرها بحيث لم يتواكبها الضوابط التى كان من المفترض ان تكون مرعية فى مجتمع خرج لتوه من عواصف الحروب والضيق الاقتصادي. ولأن المدرسة بطبيعة الحال واحدة من المؤسسات التى تأثرت بتلك السياسات المنطلقة بلا ضوابط حقيقية، فقد ظهرت المدارس الخاصة والتجريبية واللغات الأجنبية فى مزيج غريب متفكك لايربطه رابط وهى مدارس تهدف فقط إلى تحقيق الربح حسب المفاهيم الاقتصادية الجديدة، ومعها بدأت القدرات المالية تفعل مفعولها فى تغيير البناء القيمى لشعب عاش طوال عمره متكافلا حتى فى أحلك لحظات تاريخه، ومعها ايضا بدأت لوثة المجاميع الكبيرة التى اصبحت هدفا لكل عناصر العملية التعليمية ومع لوثة المجاميع الكبيرة انطلقت لوثة الدروس الخصوصية لتأكل الأخضر واليابس فى سياسة مجانية التعليم ولتضربها فى مقتل، ولتخل اخلالا شديدا بمبدأ تكافؤ الفرص بين من يقدر ومن لايقدر، وهو الخلل الذى دفع الآباء فى الطبقة الوسطى إلى البحث عن الوسائل المشروعة وربما غيرها لزيادة دخولهم لمواجهة اعباء تعليم أبنائهم، ثم انعكس كل ذلك على منظومة التعليم بكاملها، إلى ان وصلنا إلى مرحلة خطيرة من انحسار مهمة التربية فى مدارسنا على نحو ينبيء بكارثة، وعلينا ان نتدارك الأمر قبل ان نصل إلى نقطة اللاعودة ان لم نكن وقد وصلنا لها بالفعل، حيث لايوجد نظام تعليمى واحد فى العالم يعتمد كلية على هذا الحجم الكبير كما ونوعا من انواع التعليم المتنافر والمتعدد الرؤى والأهداف والسياسات، كما لايوجد نظام تعليمى واحد فى العالم يعتمد على منظومة الدروس الخصوصية، كما يحدث فى مصر حاليا، وهى منظومة لاتبنى وعيا جمعيا، كما تغل يد الدولة فى بسط سياساتها التعليمية والتربوية على جميع مدارسها، وهو الهدف الأول والأساسى من كون التعليم الأساسى تعليما عاما أو يجب ان يكون كذلك. وتدارك الأمر لابد له ان يتناول بالتطوير مكونات العملية التعليمية بدءا بالمدرسة والدارس والاستاذ وانتهاء بالمقررات والمناهج، على ان يتم كل ذلك من خلال منظومة الجودة الشاملة فى العملية التعليمية برمتها. ونظم الجودة الحقيقية فى العملية التعليمية فى كثير من البلدان هى من البساطة واليسر وعدم التعقيد بما يضمن وفاءها بالمطلوب منها، وليس مطلوبا من أى منظومة للجودة سوى الاجابة على السؤال البسيط وهو: هل منتجنا التعليمى «الخريج» يزود بالفعل بما هو مطلوب تزويده به من معارف ومهارات وسجايا سلوكية؟ وتقوم الجودة على عدة محاور، أهمها أنها تقيم البرامج الدراسية ومدى ما تعلمه الخريج بعد تحديد المواصفات القياسية للخريجين معرفيا ومهاريا وسلوكيا فى كل مراحل التعليم، وهو ما يسمى تنظيميا بالاطار القومى للمؤهلات الذى تضعه وتصممه الدولة بالتشاور والتعاون بين طالبى الخدمة أو من يطلقون عليهم المستفيدون من خريجى التعليم وبين الجهات التعليمية المختلفة، وثانيها أنها تقيس مواصفات الخريجين الفعلية عن طريق اختبارات مصممة لقياس اهداف عمليات التعلم المعرفية والمهارية والوجدانية، ثم تقارن بين الفعلى والقياسى من تلك المواصفات، ثم تتخذ من الإجراءات التصحيحة للعملية التعليمية ما يصل بالمواصفات الفعلية للخريجين إلى المواصفات القياسية الموضوعية سلفا، فنضمن بذلك أن يخرج المنتج من العمليات التعليمية وهو مؤهل تماما للنهوض ببلده على جميع المستويات والمهارات والمهن، وبذلك ايضا ان لدينا بالفعل نظاما جيدا لضمان الجودة فى التعليم، وأقترح هنا ان تلجأ مؤسساتنا التعليمية بل وهيئة ضمان الجودة والاعتماد ذاتها إلى هيئات الاعتماد الدولية لاعتماد برامج بعينها، كأن يحصل قسم تكنولوجيا السيارات مثلا على اعتماد ABET لبرنامجه الدراسي، وهو نظام عالمى معروف يمكن قياسه والقياس عليه، بل وتعترف به كل جامعات العالم، أو ان يلجأ قسم الهندسة الميكانيكية لمعهد المهندسين الميكانيكيين IMECHE لاعتماد برامجه فيصبح مهندسا مؤهلا لسوق العمل فى اى مكان فى العالم. د. احمد الجيوشى عميد كلية التعليم الصناعى جامعة حلوان