قبل نحو عقد استعمل الكاتب الكويتى الدكتور محمد الرميحي، وأحد كتاب الأهرام حاليا، تعبير «الفرضية المصرية» وهو يناقش ما كان يجرى فى المنطقة. وتذهب هذه الفرضية إلى أن ما من شيء يقع فى مصر طيبا أو رديئا إلا وتكون له أصداؤه وتبعاته فى المنطقة العربية كلها. فلو نجحت مصر مثلاً فى الإصلاح سيعم الإصلاح المنطقة ولو فشلت فى مكافحة الفساد فستفشل معها باقى الدول العربية وهكذا. وبرغم ما فى تلك الفرضية من وجاهة فإن فيها أيضا مبالغة تُحمّل مصر عبئاً يجب ألا تتحمله لو أخفق غيرها وينسب إليها فضلاً قد لا تكون وراءه لو نجح. لكن تبقى الفرضية المصرية فى العموم مقنعة خاصةً أن التاريخ لم يدخر فرصة إلا وأكد عليها. فهناك مركزية مصرية لا تخفى يجب ألا يفهمها المصريون قبل غيرهم على نحو عنصرى وإنما بالمعنى الاستراتيجى المباشر. فمصر على أى حال كانت عليه تبقى رقما إقليميا صعبا ولاعبا محوريا لا يكفى الانشغال بحاله إذا انكفأ ولا يتوقف الاشتغال عليه إذا انطلق. مصر فى عيون العرب بلد يعول عليه ويخشى منه، يفتتن به ويُكاد له، يُنتظر منه ويُدبر له. منذ 1952 إلى اليوم وعلاقات مصر بمحيطها العربى تؤكد الانشغال بها والاشتغال عليها، الخوف منها والخوف عليها، العمل معها والعمل ضدها. والموقفان مفهومان. فدولة بحجمها وقدراتها لا بد للجوار العربى أن ينشغل بها ويعول عليها ويأمل فيها. ودولة أيضاً بحجمها وقدراتها لا بد لنفس الجوار أن يشتغل عليها تخوفاً من طموحاتها. هذا هو قدر الدول المركزية. تثير الانشغال بها والأمل فى الارتكان إليها وتدفع أيضا إلى الاشتغال عليها خشية من نجاحها وتفوقها. أما عن الانشغال العربى بمصر فتتراوح أسبابه ما بين اعتبارات أمنية وسياسية وثقافية واقتصادية. هناك دول عربية مثلاً تشعر بانكشافها أمنيا فتعول على التنسيق مع مصر، أو تسعى للتوازن مع منافسين لها سياسيا فتقترب من مصر، أو تتطلع لتنمية نفسها ثقافيا فتغترف من تراث عربى كبير اضافته مصر، أو تعمل على تعزيز قدراتها الاقتصادية فتجد فى مصر سوقاً كبيرة تستثمر فيه أو مورداً للأيدى العاملة والخبرات تنهل منه. وللانشغال بمصر مظاهر لا تخفى من تسابق الإعلام العربى على الأخبار المصرية إلى شغف المسئولين والناس العاديين بالحديث فى شئونها إلى التنقيب فى ذاكرتها الفنية لاستخراج كنوز ثمينة لديها إلى الاعتراف بأستاذيتها الثقافية إلى الأمل فى تصدر قواتها المسلحة مواجهة التهديدات الإقليمية وغير ذلك من مظاهر تؤكد أن هناك انشغالا عربيا حقيقيا بمصر وليس مصطنعا. مثل هذا الانشغال يدغدغ مشاعر الريادة عند المصريين، وقد يصبح مصيدة للإعجاب الزائد بالذات ما لم تواكبه تنمية مستقلة للقدرات المصرية. فالكلمات المادحة التى يرددها المنشغلون بمصر يمكن أن يكون لها وقع سيئ برغم حلاوتها لأنها تعمق الإحساس بالنرجسية الوطنية خاصة أن من خصالنا حب الكلام الحلو وتصديق الكلام الكبير واعتباره والحقيقة سواء. كما أن الانشغال الزائد بمصر قد يكون سلاح بعض العرب لتبرئة أنفسهم أمام شعوبهم بحجة أن النجاح والفشل معلق دائما فى رقبة مصر. إن بدأت بدأنا وإن توقفت فلا يتحمل اللوم غيرها. هذه مبالغات لو سمح غيرنا لنفسه بقولها لا يجب أن نسمح لأنفسنا بتصديقها لأنها تحملنا ما لا طاقة لنا عليه وتغرينا على تحمل ما لا قبل لنا به. وإذا كان الانشغال بمصر يصاحبه كلام معسول يدعو إلى الخوف عليها من التيه بالذات، فإن الاشتغال على مصر يجب أن يثير كثيراً من الغضب لأجلها. والأمر واضح. فالبعض لا يكف عن مشاغلة مصر بل والاشتغال عليها. وعلى عكس المنشغلين الذين يقلقون على مصر فإن المشتغلين عليها يقلقون منها. بعضهم أغرته استشارات مغرضة بأن مصر باتت رجل العرب المريض وأن هذا هو الوقت للانقضاض عليها. شجعهم على ذلك حالة الهشاشة التى أخذ مبارك مصر إليها وذلك الفراغ الذى تركته يتسع لما تخلت عن ملفات عربية كانت باستمرار فى يدها ولما أهملت قوتها الناعمة. وبعض آخر يشتغلون عليها لأنهم لا يزالون مسكونين بطابع التوحش الذى وصفه بن خلدون عن العرب وميلهم للتنافس على الرئاسة سواء كانت لديهم مقوماتها أم لا. أو اندفعوا للاشتغال عليها ضمن مخططات قوى عالمية ارتأت الاستعانة بأطراف عربية لتلعب وتشتغل ضدها. ولا يقتصر الاشتغال على مصر على ذلك الدور الملوث الذى تقوم به بعض القنوات الإخبارية الهدامة وإنما يتسع للاشتغال على مصر عبر جماعات محلية تبحث لنفسها عن كفيل يرعاها ولا تمانع فى تنفيذ مقاولات سياسية تنخر من خلالها هى والقوى المشتغلة على مصر فى جسد الوطن. ومع أن المشتغلين على مصر وكلاء عن قوى أكبر يتبعونها إلا أن أحاديث الظل فى منتدياتهم لا تكف عن التلميح إلى «السخرة الإقليمية» التى يعتقدون أن مصر يجب أن تتحملها مادام أنها تحتاج إلى المال وطالما ظنوا هم أن المال قادر على شراء كل شيء بما فى ذلك إرادات الدول. وإذا كان الانشغال بمصر محل للتقدير إلا أن انشغال كل عربى بذاته أولا محلا لتقدير أكبر. وهذا ليس تبريراً لكى تتخلى مصر عن مسئولياتها لأن ذلك غير وارد أصلاً لاعتبارات تخص الأمن القومى المصري، وإنما دعوة لأن يسبق انشغال غير المصريين بمصر انشغال المصريين أكثر بها وألا يكون انشغال الآخرين بشئوننا وآمالهم الكبيرة فينا بديلاً عن حجم عمل مهول يجب أن ينجزه المصريون بأنفسهم. أما الاشتغال على مصر فليس جديداً. فقد عرفت مصر أشكالا مختلفة منه عبر العصور كانت فى كل مرة تتصدى له لتؤكد أن الشغل مع مصر وليس الاشتغال عليها هو الأجدى والأبقي. المنشغلون بمصر، مع كامل الإقرار بحسن نواياهم، قد يخدع معسول كلامهم نفوسنا المحبة جداً للكلام المعسول. كما لا يجب أن يخفى علينا أن المنشغلين بنا برغم كلامهم الودى الناعم لم يعودوا يتوقفون عن الانطلاق انتظارا لانطلاقنا. أما المشتغلون علينا فبقدر مضايقاتهم تكون فائدتهم لأنهم يوفرون حافزا للانتباه وسببا لانشغال المصريين أكثر ببلدهم ودعوةً لاشتغالهم مع بعضهم بدلاً من أن يشتغلوا على بعضهم أو لصالح غيرهم. أستاذ العلوم السياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات