فيما سمّاه «غزو البلهاء»، يقول الروائى والمفكر الكبير امبرتو إيكو إن أدوات مثل تويتر وفيس بوك منحت حق الكلام لجماعات من الحمقى، لم يكن مسموحاً لهم بالكلام فيما سبق إلا فى الحانات فقط بعد أن يحتسوا كأساً من النبيذ، ودون أن يتسببوا فى أى ضرر للمجتمع، وكان يمكن إسكاتهم فوراً. ويضيف: أما الآن، فقد صار لهم الحق فى الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل! ويختتم عبارته بأن هذا غزو للبلهاء! وفى حين أن لبعض هؤلاء البلهاء فى مصر خفة دم، قد تجعلك تبتسم وأنت تعبُر على لغوهم، إلا أن هناك من يبدون وكأنهم حمقى إلا أنهم يجبرونك على أن تكون فى كامل يقظتك، وأنت تقرأ سطورَهم وما بين سطورِهم. لا يمكنك أن تضع الجميع فى سلة واحدة. هناك من يطلق على نفسه ألقاباً بأنه شاعر أو أديب أو مفكر، وأحياناً يجمع كل هذه الصفات, وكأنها ألقاب تسبق اسمه، ثم يكتب تعليقاً على صفحته، يُقدِّم له بأنه من تأملاته الخاصة التى توصَّل لها وحده، وقد يقولها فى شكل نصيحة، مثل: لا تضع ثقتك فى الخائن! أو: لا تأخذ بكلام الكاذب! ثم يُذيِّل هذه التفاهة بإمضائه خشية أن ينتحلها واحد من محترفى سرقة الأفكار اللامعة! ويكون هو أول من يضع علامة «لايك» على هذه اللمحات العبقرية، ثم يُعلِّق بنفسه على ما كتبه بنفسه مشيداً بعمق الأفكار، ثم يعيد بثها مرات، حتى يتيح فرصة بعد فرصة لمن فاته أن ينهل من هذه العبقرية عند أول بثّ! ثم يؤسس «جروب» باسمه، مع كل الصفات التى اختارها لنفسه، ويضمك إليه دون اختيارك، ويلاحقك بإبداعاته الفذة يومياً! وهناك، من نفس الفئة، من يُمهِّد بأنه سوف يُحدِّثك عن عظمة الإسلام، ويقصّ عليك حكاية طويلة مملة عن أن أحد أصدقائه كان المسلم الوحيد فى رحلة أوروبية خلال شهر رمضان مع عدد من أصحاب الديانات الأخرى، وأصرّ الصديق على الصيام برغم رخصة أنه على سفر، فلما عرف زملاؤه فى الرحلة أن امتناعه عن الطعام لفرض من فروض دينه رفضوا المجاهرة بالإفطار أمامه، ثم تطور الأمر إلى صيامهم تضامناً معه. وإذا بالراوى لا يستنتج من هذه الواقعة أن هؤلاء قوم متحضرون، بل استخلص أن عظمة الإسلام هى التى أجبرتهم على الإذعان لفرض من فروض الإسلام! وتنهال مئات التعليقات على هذه الشعوذة، وكلها تكرر «الله أكبر». ولكن، على الناحية الأخرى، هناك آخرون، تختلف أسبابهم وهم يدسون آراء تخريبية، منهم عُصابيون لا يزالون يرددون أن مرسى عائد إلى الكرسى، ويقولون إن كل الشواهد تؤكد هذا، دون أن يعرضوا شواهدهم! ثم يتسابق مؤيدوهم بالدعاء لمرسى الذى صار فى تعليقاتهم حكيماً يحظى باحترام العالم أجمع! أيضاً دون أن يذكر أحدهم واقعة واحدة تنطوى على احترام للرجل من خارج جماعتهم وحلفائهم وأُجَرَائهم الذين لا يخطون خطوة قبل تلقى المعلوم. وهناك من يتنصلون من منهجهم اليسارى، ويستنكرون كل ما يحدث فى مصر منذ الإطاحة بالإخوان، ويتبنون رؤية صوفية تنذر بمحو تاريخى غير مسبوق، نتيجة لدمار شامل يرونه فى وجوه الناس! وهو ما يتلقفه الإخوان وحلفاؤهم ويدللون به على إثبات صحة موقفهم، ويشيدون بهذه الشهادة التى يرونها موضوعية ونافذة وقابضة على الحقيقة! مع الدعاء للدرويش الجديد بأن يلهمه الله المزيد من الرؤى الثاقبة. يرتع فى هذا الفضاء الحر عباقرة لهم نظرات عميقة فى كل الأمور، ولا يترددون فى التأكيد على أن لهم القول الفصل الذى لا يبغى إلا وجه الحق! ويتصادف أن يكون المجرى العام لاجتهاداتهم ضد إرادة الشعب المصرى وضد اجتهادات الرئيس والحكومة! لا يزال بعضهم يُصرّ على أن ينبه الرأى العام أن مشروع تطوير قناة السويس فاشل من الناحية العلمية الصرف، حتى بعد أن عَبَرَت أول السفن فى البدايات التجريبية عقب انتهاء أعمال الحفر! ولا يزال بعض آخر من هؤلاء الخبراء يَعتِبون على مصر شراء طائرة رافال التى يرون أنها دون المستوى! بل ويَبِتُّون فى مسائل دقيقة تخصّ جناح الطائرة وذيلها..إلخ. دع عنك فئة المحللين العسكريين العباقرة الذين يجاهرون بعدم تصديقهم لأعمال الإرهاب فى سيناء التى يروح فيها ضباط وجنود من القوات المسلحة, ولا يطرف لأحد من هؤلاء جفن مع مفاجأة أن لدى الإرهابيين زوارق حربية مجهزة بصواريخ وطواقم مدربة على الهجوم على القوات البحرية! قد يخرج هذا الكلام الأخير من حيز الحمق الطريف إلى التحامق الشرير! وهو أمر ينبغى الوقوف أمامه بجدية، لأنه يبدو، حتى الآن، أن التشريعات المعمول بها تعجز عن مساءلة مقترفى هذا النوع من الكتابة على المواقع الالكترونية، على غير ما يحدث مع الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية. نعم، هذه دعوة لمساءلة من يكتب للرأى العام عبر المواقع الالكترونية، على أن تكون المساءلة بنفس القواعد التى ينبغى أن يخضع لها الصحفى، وفق مطالب نقابة الصحفيين التى تستهدف تحقيق أكبر قدر من الحرية المسئولة، بمعنى توفير آليات ممارسة أقصى مدى لحرية التعبير فى ظل حماية أمن المجتمع وحقوق الجماهير والأفراد، ومن حق الصحفى أن يشتط فى رأيه، وأن يُفترَض له حسن النية إذا أخطأ سهواً، ولكنه مطالَب بإثبات صحة المعلومات التى ينشرها، كما أنه يحاسَب على السب والقذف. فما بالك وقد تدهورت الممارسة على المواقع الالكترونية إلى حدود انتشار السباب الفاحش ضد المخالِف فى الرأى. وهذه الأخيرة من المستجدات التى صارت ظاهرة على يد كتائب الإخوان الالكترونية التى بدأت قبل سنوات فى تخصص متابعة كل كاتب ينتقد الإخوان وينزلون عليه بوابل من أحط الشتائم التى تعفّ النفوس السوية عن تقبلها! لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب